رأي ومقالات

معتصم أقرع: فتريتة ماري انطوانيت

كثيراً ما يردد الخطاب العام صراحةً أو ضمناً أن مشكلة الخبز سببها تفضيل سكان المدن للقمح بدلاً من الذرة، وان الحل يكمن في العودة إلى الذرة كغذاء رئيسي وهجر القمح الدخيل الأعزل.

هذه الحجة التي تبدو سليمة في ظاهرها هي في الواقع حمقاء، خاصة عندما تأتي من صانعي السياسة أو قادة الرأي.
سأشرح لماذا الحجة مضللة.

لنفترض أن الدولة تنتج شوالين من الذرة سنويًا وتستورد شوالين من القمح (لا يهم عدد الشوالات أو الأطنان طالما أن الكمية ثابتة). أيضا افترض انه يتم إنتاج الذرة واستهلاكها في الريف بينما يتم استهلاك القمح في المراكز الحضرية.

تصور أنه في مرحلة معينة ، بسبب النمو السكاني الحضري، أصبحت كمية القمح غير كافية لإطعام السكان ، وظهرت حالات شح وصفوف وارتفاع أسعار.

في ظل هذه الظروف، هل سيكون من الصحيح القول بأن حل المشكلة هو تشجيع سكان المدن علي التحول من استهلاك القمح بـالعودة إلى الذرة؟ بالطبع لا ولاسباب كثيرة.

بادئ ذي بدء، لاحظ أن أسعار الذرة والقمح يتم تحديدها معًا لان هذه سلع بديلة تشبع رغبات متشابهة. لذلك إذا قرر أهل المدن التحول نحو الذرة، فعليهم انتزاعه من سكان الريف والطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي عرض أسعار أعلى تصيب أهل العوض بالحيرة. لذلك سيكون التأثير الأول للتحول الغذائي هو ارتفاع أسعار الذرة . لكن هذه ليست نهاية المشكلة.

لاحظ أنه لا يزال يوجد في البلاد فقط شوالان من الذرة واثنان من القمح. لذا فإن النقص العام لم يتغير. كل ما حدث هو انتقال الندرة من المدن إلى المناطق الريفية.
وهذا يعني أن المشكلة ليست من يستهلك ذرة ومن يستهلك قمح واين.

تكمن المشكلة في كمية القمح والذرة المتواجدة في البلاد والحل هو زيادة الكمية المتوفرة في السوق لا إعادة توزيع الحبوب بين المناطق.

ويمكن تحقيق زيادة المتوفر من الحبوب بـزيادة إنتاج الذرة ورفع القدرة على استيراد القمح. وهذا الحل يتعلق بزيادة إنتاج الذرة وتعزيز إنتاج سلع قابلة للتصدير توفر عملة صعبة تمكن الدولة من استيراد المزيد من القمح. هذه اذن مشكلة تتعلق بـالإنتاج، ولا علاقة لها بإعادة تخصيص أنماط الاستهلاك بعيدًا عن القمح نحو الذرة.

إن تصوير مشكلة الحبوب على أنها مشكلة ناجمة عن ابتعاد سكان المدن عن الذرة هو إساءة تشخيص يوفر الخطوة الأولى للفشل في حلها. لا أحد يستطيع حل مشكلة لا يعي ابعادها ومن أراد دليل عليه ان ينظر في أحوال حكومة ما بعد البشير.
صار تصدير اللوم علي المشاكل الاقتصادية الِي المواطن الحضري رياضة شائعة بين الطبقة الحاكمة والمتحدثين باسمها الذين يرسمون مواطنا خياليا مدللا بالدعم والكهرباء والمعجنات، ولسوء الحظ فإن هذه الرياضة أيضا دارجة بين الشعبويين المتسرعين وكتائب اخري من الجزافيين.

قد يقول قائل إن زيادة الطلب على الذرة سيؤدي إلى زيادة الأسعار وهذا سيوفر حافزًا للمزارعين لإنتاج المزيد من الذرة. هذه الحجة معقولة في ظاهرها ولكنها ليست دقيقة بالضرورة لأسباب عديدة.

أحد الأسباب هو أن إنتاج الذرة لا يقيده نقص الطلب بل مشاكل أخرى مثل شح مدخلات الإنتاج ونقص العمالة وضعف خدمات ما بعد الحصاد ، بما في ذلك التعبئة والتغليف والتخزين والنقل.

لكن حتى لو تم حل كل مشاكل الإنتاج هذه وأصبح من الممكن زراعة المزيد من الذرة، فهل هذا هو الطريق الامثل؟ ليس بالضرورة.
في وضعنا الوطني الحالي ، لا يعد الاكتفاء الذاتي من الغذاء مهما ، فهو ليس أكثر من شعار يعاني من الأمية الاقتصادية.
إذا كان بإمكانك شراء وجباتك من مطعم جيد، فكونك تطبخ في المنزل أم لا قضية مزاج ولا تعتبر قضية استراتيجية. الأمر نفسه ينطبق على إنتاج الذرة.

لتوضيح تلك النقطة، افترض أنه يمكن استخدام فدان واحد من الأرض وكمية ثابتة من العمالة لإنتاج طنين من الذرة ولكن يمكن استخدام نفس المدخلات (أو نفس تكلفتها) أيضًا لإنتاج طن واحد من القطن (أو البصل أو أي محصول آخر).

أيهما افضل, تكريس الفدان والعمالة لإنتاج الذرة أم القطن؟ الجواب يعتمد على الأسعار النسبية. إذا كان من الممكن بيع طن القطن مقابل مبلغ يكفي لشراء أكثر من طنين من الذرة (أو القمح) ، فسيكون إنتاج القطن أكثر ربحية واكثر منطقية لان زراعة القطن بنفس التكلفة توفر لنا طنين من الذرة بينما زراعة الذرة توفر طنا واحدا.

هذا المنطق يعني أننا يجب أن نكرس أراضينا وعمالتنا ومدخلاتنا الأخرى لإنتاج المحاصيل الأكثر فائدة وربحية ، وليس بالضرورة للذرة أو القمح أو أي محصول شعاراتي.

هذه الاعتبارات المذكورة أعلاه هي بعض من جوانب الجدل حول مشكل القمح والذرة ولكن هناك قضايا أخرى.
صنع الكسرة صعب وطويل. كان من الممكن الاعتماد على الكسرة في عهود سابقا لأن معظم النساء كن يعملن في المنزل وليس بالخارج وكان الشعب يعيش في منازل فسيحة وليس في شقق مكتومة.

مع ارتفاع عدد النساء العاملات خارج المنزل اليوم، ومع الاعتماد المتزايد على الشقق بدلاً من المنازل ، تصبح عواسة الكسرة في المنزل غير ممكنة علي نطاق واسع, اضف الِي ذلك ان تكلفة اعدادها غير زهيدة وتشمل العمل الطويل والمدخلات المكلفة والتي لا تتوفر دائما مثل الغاز.

توقف الانتاج المنزلي للكسرة يعود الِي هذه الاعتبارات الموضوعية والتحولات المجتمعية ولا علاقة له بحنكشة مكتسبة اصابت حواء السودانية.
هذه هي الاسباب في أن معظم سكان المدن يشترون اليوم الكسرة من الشارع ، وهي تحتوي على نسبة عالية من القمح, لا الذرة, ويتم إنتاجها في ظل ظروف غير معروفة فيما يخص المعايير الصحية.

وحتى إذا قررت الشركات الكبيرة مثل دال إنتاج الكسرة الصناعية على نطاق واسع ، فأنا أظن أن السعر سيكون مرتفعًا جدًا بسبب تكلفة العمالة والتكاليف الأخرى.

ينسب إلى ماري أنطوانيت عندما تفاقمت ازمة الخبز أيام الثورة الفرنسية أنها نصحت رعاياها الفلاحين الجائعين بان يأكلوا الكيك بدلا من الخبز الذي لم يجدوه.

والقائلون بالعودة الِي الذرة كحل وطني يفتقدون الاحتكاك بمبادئ الاقتصاد, بداية بما يترتب علي فقه الميزات النسبية, مثل ما افتقدت ماري انطوانيت الاحتكاك بشارعها الفلاحي.

معتصم أقرع