مزمل ابو القاسم يكتب: وضع الطيران
الموجع حقاً أن يرتبط كل انخفاضٍ مريع للعُملة الوطنية، وكل ارتفاعٍ مهولٍ في سعر الدولار بتدخلٍ سالبٍ للحكومة نفسها في سوق العملات الأجنبية، ونذكر هنا أن الدولار كان يُباع بثمانين جنيهاً في مثل هذه الأيام من العام الماضي، قبل أن تتدخل الدولة ممثلةً في وزارة المالية لإبرام اتفاقها الشهير مع شركة الفاخر، ومن هناك ابتدأ مسلسل الانهيار الكارثي للجنيه.
* خلال عامٍ واحدٍ انخفضت قيمة الجنيه بنسبة تقارب (500%)، ليسجل الدولار أمس (350) جنيهاً في الخرطوم ويقترب من (360) في دبي.
* المزعج في ما يحدث بسوق العملات الأجنبية حالياً أن الزيادات باتت تتم بوتيرةٍ يوميةٍ، بل تحدث عدة مرات في اليوم الواحد، بسعرٍ في التداولات الصباحية وآخر في منتصف النهار، وثالث في خواتيم اليوم، مثلما تحدث أحياناً على رأس كل ساعة، ليشيع ذلك الوضع المُزري فوضى عارمة في الأسواق، وصلت درجة توقف التجار عن البيع، تبعاً لعجزهم عن التسعير.
* التدخل الرسمي الثاني الذي خسف بالجنيه الأرض، وقفز بالدولار من (145) إلى (270) جنيهاً خلال بضعة أيام حدث عقب إقدام الحكومة على شراء (355) مليون دولار من السوق الموازية، لتسديد تعويضات المُدمرة كول والسفارتين للأميركيين، باعتراف الفريق حميدتي، نائب رئيس مجلس السيادة، رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية.
* أما الطفرة الأخيرة، التي تهدد بتخطي الدولار لحاجز الأربعمائة جنيه خلال الأيام المقبلة فقد حدثت تبعاً لإقدام الدولة ممثلة في وزارة المالية على تسديد (16) تريليون جنيه (بالقديم) لشركتين، تنشط إحداهما في مجال طحن الدقيق، وتستورد الثانية مجموعةً من السلع الاستهلاكية بما فيها السكر، بالإضافة إلى مشتريات محفظة السلع الإستراتيجية ، التي تفرض على الشركات المستوردة للبترول سداد قيمة وارداتها بالجنيه، مضافاً إليها نسبة عشرة في المائة محلياً.
* عن التأثير السالب لتلك المحفظة حدّث ولا حرج، فقد سجلت فشلاً ذريعاً في إنجاز المهمة التي أوكلت إليها، وأخفقت في توفير السلع الاستراتيجية، مع أن الدولة خصصت لها كل عوائد صادرات الذهب، فلم تفعل شيئاً سوى مضاعفة أزمات البلاد من الوقود والقمح والدواء، ومع ذلك تُصر الحكومة على الإبقاء عليها وتمييزها وتمكينها من احتكار مشتريات الدولة من السلع الإستراتيجية بمحسوبيةٍ مقيتةٍ، وتجاوزٍ مريعٍ لنصوص قانون الشراء والتعاقد للعام 2010.
* استبدلوا الفاخر بالمحفظة، واختصوها بسندٍ أعلى، ووظفوا كل وزارات القطاع الاقتصادي لخدمتها، وحاولوا أن يسبغوا عليها مشروعيةً لن تحظى بها أبداً، وكانت المحصلة المزيد من الشُح والصفوف والغلاء، وانخفاضاً مريعاً في قيمة العُملة الوطنية، فلماذا تُصر حكومة حمدوك على استمرار عمل المحفظة برغم ثبوت فشلها، وتمام عجزها عن أداء المهمة الموكلة إليها؟
* بالطبع لا نستطيع أن نغفل التأثير السالب للوضع السياسي الكارثي على الاقتصاد عموماً، وعلى سوق العُملات الأجنبية تحديداً.
* عملياً البلد (قاعدة في السهلة) بلا حكومة في الوقت الحالي، وخلافات الشركاء متصاعدة، والتشاكس بينهم على أشُده، بل إن التنازع حاصل حتى داخل أحزاب قوى الحرية والتغيير ومكونات الجبهة الثورية نفسها، وتأثير السياسة على الاقتصاد معلوم للكافة.
* أنهك الوضع السياسي الهش جسد اقتصادٍ منهار في دولةٍ ابتلاها المولى عز وجل بساسة لا يقيمون وزناً لمصلحة الوطن، وتعمى بصائرهم قبل عيونهم عن رؤية الوضع المزري لبلادهم، التي تقترب من الهاوية شيئاً فشيئاً، ويعاني أهلها الأمرّين من ويلات الفقر والغلاء والتضخم والبطالة وسوء الأوضاع الأمنية.
* قد لا تجد الحكومة المقبلة بلداً متماسكاً تحكمه، حتى لو استجاب الشركاء لتهديد البرهان لهم، وسارعوا في تكوين الوزارة الجديدة في الوقت الذي حددته المصفوفة، علماً أننا لم نسمع لها برنامجاً، ولم نقرأ لها خطةً تستهدف معالجة الأوضاع المزرية التي يعيشها السودان حالياً، لأن خطة اللعب الحالية محصورةٌ في كيفية دخول منطقة الجزاء لاقتطاع أكبر قدر من كعكة السلطة.. في دولةٍ شارفت بطاريتها على الفراغ، وتحولت فعلياً إلى وضع (الطيران).
صحيفة اليوم التالي