إستيفن شانج يكتب: السودان وإثيوبيا.. نزاع حدودي أم صراع محاور؟
الحرب (السودانية الإثيوبية) الوشيكة حول منطقة (الفشقة) المتنازع عليها، مقلقة بكل المقاييس، مع صعوبة بالغة في تشخيصها والتنبؤ بمآلاتها. ومنشأ القلق والإنزعاج علاوة على سوء الحرب وإفرازتها، التوقيت غير الجيد للبلدين في مناقشة مشكلات لها مرجعيتها التاريخية والعديد (ميكانيزمات) للتباحث
حولها وإنهائها بطرق دبلوماسية وودية.
ذلك، لأن الجانب الإثيوبي لم يبد أي تجاوب للجهود التي تُبذَل هنا وهناك لنزع فتيل الإحتقان في حدودها مع السودان، بل مضى إلى أكثر من ذلك بتأليب الداخل الإثيوبي المضطرب بإصرارها أن الحرب يقودها السودان بالوكالة عن دولة صنفتها الحكومة الفيدرالية (عدو أول)، مما يفتح الأمر على كافة
الإحتمالات. فالملاحظ أن إريتريا حليفة (آبي أحمد) قد تتخلى عنه في أي وقت نسبةً لإفتقار هذا الحلف إلى كثير من عناصر وعري التواثق والتوافق، وبالمقابل بإمكان السودان استمالة إريتريا وغيرها من دول الإقليم أو على أقل تقدير تحييدها في حال نشوب مواجهات عسكرية مباشرة، وهو الأمر المرجح
بقوة. إذاً فالخطوة المرتقبة من قبل القيادة السياسية في إثيوبيا هي البحث بعيداً عن حليف تشكل معه محوراً قوياً وتحفظ به ميزان القوى في راهن المنطقة ومستقبلها.
إن رحلة بحث إثيوبيا عن حليف قوي لن يطول في ظل هذه الأحداث المتسارعة داخلياً وخارجياً، مع بروز خلافاتها مع السودان ومصر حول سد النهضة، إذ ستجد إدارة آبي أحمد ضالتها في تركيا التي تناصب مصر العداء، مما سيجعل من أنقرة الداعم الأساسي لها في حربها التي هي حرب حدود مع
السودان في العلن، وحرب سد النهضة في الخفاء.
ويأتي متغير اللاجئين الإثيوبيين في السودان في هذه المعادلة كعامل مساعد لتأجيج هذا التطور الخطير في العلاقات السودانية الإثيوبية، إذ إن قومية التيغراي ذات الحدود القصيرة مع السودان، تشكل الأغلبية الساحقة في معسكرات اللجوء بمنطقة (أم راكوبة) السودانية، ومع الأخذ في الإعتبار أن هذه
المعسكرات لا تخلو من مقاتلين يعارضون الحكومة الإثيوبية ويتحيّنون فرص القضاء عليها، فإنه بإمكان السودان الضغط بهذا (الكرت) خلال أية مفاوضات ستجري بين الطرفين، فضلاً عن غلق الحدود وأيواء معارضة التيغراي في السودان ودعمها لوجستياً واستخدامها في الحرب كأمر مسلم به في حال
فشلت تلك المفاوضات.
أما موقف بقية القوميات الإثيوبية من هذا الصراع، فهو ما يزعج حكومة آبي أحمد في الوقت الراهن، فمع هشاشة الأوضاع الداخلية ووجود معارضة قوية يمثلها إقليم بني شنقول، فإن أي أصطفاف آخر خلف التيغراي من شأنه تعقيد الوضع أكثر وربما تشتيت الجهود العسكرية ما بين نزع فتيل نزاع داخلي
وخوض حرب خارجية، ومن ثم الخسارة المذلة لإثيوبيا وسقوط حكومتها. لكن المفارقة التي حدثت الآن هي ظهور وساطة جنوب السودان التي أعلنت عن نفسها كمتغير مهم لوضع حد لهذه الأزمة المتنامية، فقد شهدت المنطقة من قبل وساطة السودان لوقف الحرب الأهلية التي نشبت في جنوب السودان
خلال السنوات 2013 – 2018م، فيما نجحت كذلك الوساطة الإثيوبية التي أدت إلى التهدئة في السودان وتكوين حكومة إنتقالية مشتركة بين المكونين العسكري والمدني عقب سقوط الرئيس البشير في أبريل 2019م على يد ثوار السودان فيما عرف (بثورة ديسمبر)، وتأتي الوساطة الجنوب
سودانية خلال هذه المرحلة – في حال تم قبولها من قبل الجانب الإثيوبي – لتأكيد روح التضامن والتعاون الإقليمي المشترك في محاولة لمنع التدويل ومغبة جر المنطقة إلى مزلق التدخلات الدولية وتباطؤ المجتمع الدولي في حل النزاعات.
ورغماً عن أن الأزمة لم تراوح بعد مرحلة التصريحات السياسية المقتضبة والتحركات المريبة لقوات السودان وإثيوبيا وإحتشادهما في المنطقة محل النزاع، إلا أن الموقف الإثيوبي الرافض لتحركات الجيش السوداني والدعوة للرجوع إلى ما قبل الأزمة كشرط للتفاوض، بالإضافة إلى رفض أديس أبابا
الإعتراف باتفاقية 1902م الخاص بحدود البلدين بأعتبارها تركة استعمارية ظالمة، إلا أن هذا الشرط نفسه هو ما ترفضه مصر في إعادة تقسيم مياه النيل إلا بالحد الذي لا تتضرر فيه حصة مصر من المياه، وهنا يجب أن لا نغفل موقف السودان والذي سيبرر قدسية الحفاظ على مبدأ الحدود الموروثة طبقاً
لقرارات منظمة الوحدة الإفريقية في عام 1964م.
وغير بعيد عن هذه التطورات، فإن المصالحة الخليجية التي تمت مؤخراً بين الأشقاء في الخليج العربي ومصر، من شأنها استمالة تركيا إلى تفعيل علاقات سياسية ودبلوماسية مع القاهرة في حال سعت قطر إلى ذلك، وهو ما سيفقد إثيوبيا في هذه الحالة حليفاً قوياً كتركيا.
لقد أعادت التوترات الأمنية في حدود السودان وإثيوبيا ترتيب أوراق المشهد السياسي الإقليمي من جديد، وفتحت الباب على كافة الإحتمالات في وقت كان على الأطراف الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا لملمة هذه الأوراق وحسم قضاياها بالحوار الجاد والسعي للوصول إلى حلول تنعكس عليها بالتعاون المثمر
الذي أساسه التعاون المشترك وإبعاد المنطقة عن شبح الحرب وإنعدام الاستقرار.
صحيفة الانتباهة