المرأة الجزار
قطع مرافقي حواري العفوي مع بائعة (الباباي) وقال (يجب أن نذهب الى سوق اللحم)، لقد اتصل علي زبوننا (أبودقن) وقال ان الأكل جاهز.وصلنا الى تلك المساحة الخضراء التي تغطت بغابة من الصنوبر والتي تقع على شمال الطريق عندما تكون متوجها ناحية الشرق..تحتضن تلك الغابة عددا من النساء اللائي يمارسن مهنة بيع الشاي..عبرنا الطريق ورأينا صفا من الذين يبيعون اللحم النيئ..لاحظت في وسطهم امرأة ترتدي نظارة شمسية وثوبا مزركشا، فتوجهت نحوها وسألتها (هل تعملي هنا)، قالت في ثقة (أنا لي سنوات بشتغل جزارية)، ثم شمرت ذراعها التي تحمل السكين وقالت (داير ايد) ولا (ورك) تعني الفخذ..تدخل صديق وقال لها (نحن حاجزين عند (أبودقن)، والزول دا ضيف في البلد..نظرت اليه شاكرا لذلك التدخل المناسب، ثم قلت له لقد تجولت في عدد من أسواق السودان وبعض الدول الافريقية، فلم أجد امرأة (جزارية)..معظم النساء الفقيرات في أفريقيا يبعن الفحم والخضروات والملبوسات..لكن لهذه المرأة قصة يجب أن تروى..حدثني مرافقي عن أنها تذهب الى سوق الماشية وتشتري البهائم، ثم تأتي بها الى الذبيح (الكيري) أي الذبيح غير المرخص، وأنها تقوم ببيع اللحم منذ أن قدمت الى هذه المدينة قبل ثلاث سنوات..كم تملكتني الدهشة بعد أن علمت أنها تمارس تلك المهنة منذ أن توفى زوجها..
حكاية هذه المرأة (الجزار)، وردت ضمن حكايات أفريقية ماتعة، وثقها دكتور عباس التجاني من خلال تسفاره وتطوافه على مناطق سودانية شتى ودول أفريقية متعددة، اهتم فيها برصد مناحي الحياة كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونشرها في كتاب بعنوان (سفر الروح..حكايات أفريقية)، ويقع كتاب د. عباس ضمن الأجناس الابداعية المعروفة ب(أدب الرحلات)، وهو نوع من الأدب يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلة قام بها لأحد البلدان أو المناطق. وتعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءتها غنية، ممتعة ومسلية. ومن أشهر من اشتغلوا على هذا الأدب ابن بطوطة وماركو بولو وتشارلز داروين وأندريه جيد وأرنست همنجواي ونجيب محفوظ، رغم التباين الكبير فيما بينهم، لكن الفكرة التي تجمعهم هي فكرة الرحلة نفسها، الرحلة الزمانية أو المكانية أو النفسية، وهذا بالضبط ما فعله د, عباس بأسلوب سهل وبسيط وبعيد عن التكلف والصناعة اللفظية، بل نجد أنه لم يتحرج من استخدام العامية في بعض الأحيان..والكتاب قمين بالاقتناء والمطالعة وأن نسافر على صفحات كتاب (سفر الروح) مع دكتور عباس التجاني الناشط في منظمات المجتمع المدني والمنظمات الطوعية والصحفي والاعلامي والمترجم، الذي رصد ووثق ووصف بعين الصحفي وخبرة العمل الطوعي والمدني، كل ما وقعت عليه عينه من تصرفات الناس وعاداتهم وما هم عليه من سلوكيات في التعامل مع من يقابلهم، كما أتي على ذكر الأحوال المعيشية والأنماط الاجتماعية والاقتصادية للبلدان والمناطق التي زارها داخل السودان ودول أفريقية شتى..
***********
حيدر المكاشفي – صحيفة الجريدة