سائق الوزيرة
* تُرى ماذا ستقول الدكتورة هبة محمد علي، وزيرة المالية المُكلّفة، بعد أن طرقت الجريمة أبواب وزارتها، واقتادت الشرطة سائقها الخاص، متهماً بالمشاركة في سرقة أحد مصانع الحديد بالخرطوم؟
* ذكرت الشرطة أن سائق الوزيرة استغل عربتها الحكومية، واستخدم السرينة الملحقة بها لفتح الطريق للصوص، وأن كاميرات المراقبة الملحقة بالمصنع وثقت جريمته المُنكرة.
* لن نبرر الفعل الأرعن، لكننا سندلل به على الانعكاسات الخطيرة للقرارات التي رعتها الوزيرة، واتخذتها بمنتهى القسوة، من دون أن تتحسب لآثارها وتراعي تداعياتها الخطيرة على المجتمع، أو تسعى إلى محاصرتها ببرامج موازية، تستهدف حماية محدودي الدخل من غول الغلاء الفاحش.
* سيتمدد الإحساس بالعجز واليأس عند محدودي الدخل، تبعاً لسياسة الإفقار التي انتهجها حكومةٌ قاسية، لم تترك سلعةً إلا ضاعفت سعرها، ولم تغادر خدمةً إلا شقّت على الناس برفع قيمتها، قبل أن تنثني على الكهرباء، فتضاعف تعرفتها بأكثر من خمسمائة في المائة.
* ستفتح تلك القرارات ألف بابٍ للجريمة، بالنهج ذاته الذي فتح به سائق الوزيرة الطريق للصوص مصنع الحديد، وستسبب الزيادات التي دخلت على أسعار السلع والخدمات في شيوع السرقة، وتعدد حالات السلب والنهب، وضياع أمن الناس في كل مكان.
* نُقل عن سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه قوله (ما دخل الفقر بلداً إلا قال له الكُفر خذني معك)، ومعلوم أن سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد وعطّل حد السرقة في عام الرمادة، ومن ينظر إلى أحوال الناس في بلادنا حالياً سيجد (الرمادة) متفشيةَ في كل أريافها ومدنها، وسيلحظ أن (الرماد كال حماد) بفقرٍ مدقعِ، وعوزٍ مستشرٍ، وعجز مريع لغالب الشعب عن توفير أبسط مقومات العيش الكريم.
* ستتمدد الجريمة تبعاً لتفشي الفقر، وسينعدم الأمن عطفاً على ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وستجد الشرطة عنتاً شديداً في محاربة الجريمة، بعد أن يضطر أصحاب الحاجات إلى ركوب الصعب، بتجاوز القانون، سعياً إلى توفير خبز الأطفال وحليبهم.
* الفقير أسير حاجته، لأنها تشغله بدنياه، وتلهيه عن دينه، وتشغل عقله بكيفية إعالة النفس والأسرة.
* عندما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة زعم بعض المحللين أن تلك الاحتجاجات لم تكن مطلبية الطابع، وادعوا أنها لم ترتبط بالضائقة المعيشية التي أمسكت بخناق الناس وقتها، واستشهدوا على قولهم بذكر بعض الشعارات التي رددها الشباب في الشوارع، مثل (حرية سلام وعدالة)، كي يثبتوا بها أن المسيرات لم ترتبط بمطالب المحتجين، ولا احتياجاتهم المادية.
* ظلوا يتشدقون بذلك الحديث، ويرددونه مراراً، وكأنهم يرون في مطالبة الناس بحقوقهم منقصةً لهم.
* أذكر أننا كتبنا وقتها أن تلك الهبة مطلبية الطابع، وأن ذلك لا يشينها ولا يزدريها، لأن الحقوق التي رفع الناس عقائرهم للمطالبة بها لا تنفصل عن بعضها، فمن يطلبون من حكامهم أن يوفروا لهم احتياجاتهم، يلتمسون في حقيقة الأمر حياةً أفضل، تحفظ كرامتهم وإنسانيتهم، وتصون عفتهم، وتضمن حريتهم، كي لا يقعوا في ذل الحاجة وأسرها.
* ننظر حولنا بعد مرور عامين على اندلاع الثورة لنجد أن الأوضاع الاقتصادية سارت إلى الأسوأ، وأن الحكومة التي وُلدت من رحم الثورة سجلتً فشلاً مشهوداً في صيانة كرامة مواطنيها، ومارست معهم أقصى درجات القسوة، وأحالت حياتهم إلى جحيم.
* المؤسف في الأمر أن تلك الزيادات الموجعة اتخذت بمعزل عن القانون، ومن دون أن تتم إجازتها في ميزانية عامة، مما ينزع مشروعيتها، ويدلل على عدم قانونيتها، مثلما يشير إلى استخفاف السلطة بمواطنيها، لذلك نتوقع من أهل القانون أن يهبوا إلى مناهضة تلك القرارات الجائرة الظالمة غير المشروعة، وأن يسعوا إلى إبطالها بالقانون، قبل أن يدفع السودان كله ثمنها غالياً بضياع أمن البلاد، تبعاً لاستهتار حكومته بالشعب.. والقانون.
مزمل ابو القاسم – صحيفة اليوم التالي