صلاح إدريس يكتب: إلى جنات الخلد أيها الإمام سليل الحرية والديمقراطية والانعتاق
كتبت عن فقيد البلاد وفقيد الأمة السودانية الإمام الصادق المهدي مقالاً ساخناً قبل عدة أشهر. كان عنوان المقال (فاتك القطار). وقرأ بعض الأصدقاء المقال وقالوا لي أننى حملت عليه كثيراً. فقلت لهم أن هذا طبيعي ولا أنكر أن الصادق المهدي كان شخصية خلافية بل ومحورية في دولاب السياسة السودانية. ولا أنكر أن العديد من الكتاب والصحفيين والسياسيين والمفكرين اختلفوا مع الإمام في الأفكار والأقوال والمبادرات على مر التاريخ الحديث. ولكن الإمام كان كالعهد متسامحاً كريماً يعترف بالرأي الآخر ويحترمه.
لأن الامام كان القطب الذي تدور فيه السياسة في البلاد. ولكن لايختلف اثتان أن الإمام كان عراب وحامي والظهير الثالث لفكرة وتطبيق وممارسة الحرية والديمقراطية في السياسة السودانية. ليس هذا فحسب ولكنه نذر نفسه ووقته وفكره وثقافته العريضة والممتدة وتأهيله الأكاديمي (درجته العلمية في العلوم السياسية من جامعة أكسفورد) والفطري لهذه الفكرة ودافع عنها بصبر وجلد حتى الرمق الأخير من حياته، تلك الحياة الثرة الغنية التي شكلت الوجدان السياسي والفكري والتاريخي وجذرت الواقع السياسي الذي ظل فيه الإمام لاعباً أساسياً لأكثر من سبعين عاماً قضاها بين ظهرانينا مرة حاكماً والأخرى معارضاً والثالثة كاتباً والرابعة مفكراً والخامسة منفياً. نعم فالإمام كان يلبس عدة (جلاليب) مبرقعة ولكنها كانت تحمل لوناً واحداً وفكرة واحدة مركزية نذر لها نفسه وهي لا بديل للحكم الديمقراطي في السودان. أوجه رسالة قصيرة لمن ينادي بعودة العسكر فليتذكر شيئاً واحداً هو أن تمترس الإمام حول فكرة الديمقراطية لحكم السودان لم تأت من فراغ. ونقول لهم أرجعوا إلى الوراء قليلاً وأنظروا ماذا فعل تحالف العسكر مع الإسلاميين في السودان.
نعم أعترف أن رحيل الصادق المهدي كان خبراً صاعقاً وقوياً، وذكرت أنه حرك القنوات الإعلامية بصورة لم يشهد لها مثيل. لماذا؟ لأن الإمام لم يكن سياسياً عادياً، ولكنه كان القاطرة الممتدة والأصيلة – عندما أقول قاطرة أقصد بها القاطرة التاريخية والفكرية والثقافية والأدبية والمجتمعية وحتى الأكاديمية لأكثر من سبعة عقود. ولا غرو فهو سليل أسرة الإمام المهدي. الأب الطبيعي الذي أنجب كل الثورات السودانية التي ولدت وتربت من عبق ذلك التاريخ المجيد. عندما قامت الثورة المهدية، فقد انتفض الإمام المهدي ضد الظلم والطغيان وقامت الثورة المهدية (تاريخ الثورة المهدية يحتاج إلى إعادة كتابة). وضعت هذه الثورة السودان في الخريطة العالمية في القرن الثامن عشر وعرفت الشخصية السودانية بأنها ترفض الاستعمار وتأبق للحرية والديمقراطية والانعتاق. لا غرو أن تلد حواء السودانية رجال أشداء، قادوا البلاد للاستقلال من الحكم الإنجليزي. ومن رحم حواء ولدت كل الثورات السودانية. اكتوبر (1964م) التي أصبح فيها الإمام أصغر رئيس وزراء مر على السودان إن لم يكن العالم. ابريل (1985م) تقلد الصادق المنصب مرة أخرى. ديسمبر (2018م) كان موقف الإمام هو (بوخة المرقة) التي تندر بها البعض على الإمام. ثورة المهدي انتهت بالإستعمار الإنجليزي التركي. كل ثورات السودان انتهت بإنقلابات عسكرية قادت البلاد إلى المجهول. آخرها مايسمى بثورة الإنقاذ الوطني التي انتهت بفصل الجنوب والخراب السياسي والدمار الاقتصادي والتشرذم العرقي وثورة مازلنا نشهد فصولها الآن.
أخلص من كل ذلك إلى نتيجة واحدة هي إيمان الإمام بفكرة الديمقراطية أنها الأفضل لإدارة الدولة السودانية. رضع الفكرة من جده الإمام المهدي. الذي حرر السودان بسلاح أبيض وسطر التاريخ (رجالاً كالأسود الضارية). فهو الصادق الصديق عبد الرحمن محمد أحمد المهدي. تقمص الحفيد فكرة الحرية والديمقراطية وكرس حياته لها فكراً وتطبيقاً وممارسة. لم يتزحزح الإمام عن هذه الفكرة ورفض العمل مع العسكر رغم العروض التى تلقاها. بل وقاد معارضة سياسية وعسكرية شرسة (ثورة يوليو 1977م). وظل إيمانه بالفكرة راسخاً كالطود العظيم رغم الإغراءات.
ماغادر الشعراء والكتاب من متردم، ولكن لا شك أن رحيل الإمام سوف يترك فراغاً عريضاً كان يملأه عن جدارة واقتدار. رحل الصادق المهدي جسداً ولكنه سوف يظل فكرة ترفرف على مر التاريخ في أنحاء الوطن الكبير. لا يستطيع أحد أن يملأ تلك المكانة السامقة. ولكن نأمل أن نستفيد من التراث الفكري والثقافي والسياسي الذي خلفه. وأن نتمسك بفكرة الديمقراطية التي كرس لها الإمام حياته. رحم الله الإمام وبارك في تلك الذرية التي سوف تحمل الراية التي لن تسقط مادامت أمامها هو من عبد الطريق لدولة الحرية والديمقراطية والسلام. ولك الرحمة والمغفرة والعتق والإنعتاق الذى ظللت متمسكاً به حتى لقيت الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون.
صباح إدريس – صحيفة الانتباهة