السلام يا المهدي الإمام
* قاسٍ هو الموت أيّان يأتي، فهو لا يُحدد لنا ساعةً بعينها كي ننتظره فيها، أو نتهيأ له قبلها، فكثيراً ما يأتي بغتةً ليفجع الأحباب، ويُوجع القلوب، ويملأ المآقي بالدموع، والنفوس بالحسرات.
* عادلٌ في طوافه لا يستثني الأخيار، ولا يخطئ الأشرار، ويظل هو الحقيقة الأبقى في فانيةٍ أطلق عليها المولى عز وجل مُسمّى الحياة (الدُنيا).
* نعى الناعي الإمام الصادق في يومٍ أسودِ وحزينٍ، كئيب التفاصيل.
* صدق من قال: لكلٍ امرئٍِ من اسمه نصيب، فقد ملأ الراحل الدنيا وشغل الناس، بحكمته وكياسته وسِعة صدره وحُسن خُلقه وترفعه عن الصغائر، وصفحه عن الظالمين، وتجاوزه عن هنّات المتجاوزين، وسعيه الدؤوب إلى تحقيق ما يصلح الوطن، ويحقق فائدة أهله ورفاهية شعبه.
* إذا تحدثت عن تواضع الكبار فأنت تومئ – شئت أم أبيت – إلى الإمام، الذي لم يترفّع يوماً عن مخالطة العامة، ولم يستنكف مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، والاحتفاء بإنجازاتهم، من دونٍ غرورٍ ولا عجرفة.
* إذا تطرقت إلى اهتماماته المتصلة بالشأن العام ستجد أنها طافت كل تفاصيل الحياة، بمعتقداتها الدينية وشؤونها الاجتماعية والاقتصادية والفنية والأدبية والتاريخية والسياسية والرياضية.
* وإذا امتد التناول إلى مساهماته الفكرية والثقافية فذاك حديث آخر، للإمام فيه باعٌ طويل، وكعبٌ عالٍ، تشهد عليه مؤلفاته القيمة، وكتبه العديدة، وأوراقه العلمية التي طافت كل مناحي الحياة، ولم تترك باباً إلا طرقته، ولا مجالاً عاماً إلا ولجته.
* أما علاقة الإمام بالصحافة فقد شهد بها كل من حاوروه في عريشةٍ بسيطةٍ ظللتها المحبة، وبقيت على الدوام مفتوحة لكل طارقٍ وزائرٍ وغائر، يستقبلك فيها هاشاً باشاً ومتهللاً، ويودعك حتى الباب بطيبة ووداعة الكبار، وتواضع العلماء الأخيار.
* قاموس الإمام عامرٌ بتعابيرَ لطيفةٍ وخفيفةٍ، تتردد على لسانه الذرِب العَفْ؛ فتسري بين الناس سريان النار في الهشيم.. يستخدمها لتقريب المعاني، وتسهيل الأفهام، فتضج بها المجالس، وتتناقلها الألسن في كل مكان.
* إذا طفت على بيته الصغير ستجده أباً مُحباً، رحيماً عطوفاً ودوداً متفانياً في تزويد أبنائه وخاصته بما يعينهم على تحقيق النجاح في حياتهم.. ويغمرهم بالمحبة ويحتويهم بلطفٍ معهود فيه.
* هو (الحبيب) الذي فاضت محبته من دار الأمة لتطوف كل ربوع السودان، وتبلغ أريافه ومدنه، وتسيل مع نيله وأوديته الرطبة، وصحاريه الجافة، وغاباته المتشابكة.
* غسل المولى عز وجل قلبه من الأحقاد، ونزهه من الضغائن، فبقي مثالاً للتسامح والترفع والسمو والعلو، زاده قلبٌ رحيمٌ، وخلقٌ قويمٌ، لم يدفعه يوماً إلى الانتصار للذات، إذ بقي مستمسكاً ومستعيناً ومستهدياً بمقولة جده الخالدة (المنايا في طي البلايا.. والمِنن في طي المِحن).
* يظل الصادق المهدي السياسي الاستثنائي في تاريخ السودان المعاصر، والمثل الأبرز للقيادة الملهمة في الزمن الصعب.
* رحل عنا والوطن أحوج ما يكون إلى خبراته المتراكمة، ورؤيته الثاقبة، وفيوض حكمته الغامرةٍ، التي احتضنتها روحٌ متسامحةٌ، لا تعرف الركون إلى الضغائن، ولا تجيد التوقف عند المحطات الصغيرة.
* ظلت مصالح السودان العليا همه الأول، ومبتغاه الأخير.
* لم يكن خامل الذكر يوماً، فقد وُلد في دِعةٍ وسِعةٍ فاختار العنت، ومال إلى الشقاء، وغشي السجون والمعتقلات، وخبِر المنافي، وتجرَّع مرارة الجحود، فلم تغير الأيام معدنه النقي، بقدر ما زادت شخصيته الرائعة حكمةً وتواضعاً وقدرةً على العفو والصفح والترفع عن الصغائر.
* شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بعِظم الشأن، ونال لقب حكيم الأمة بلا منافس، وظل – رحمة الله عليه – حفياً بأهله ووطنه، متسامحاً مع خصومه حتى يومه الأخير.
* ملء الفراغ الكبير الذي سيخلفه احتجاب الإمام عن الساحة السياسية في هذا الظرف الحرج؛ صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، فقد كان – رحمة الله عليه – نسيج وحده في تصريف البلايا، ومقارعة المٍحن، وكان أوفر ساستنا سعة في الأفق.. ما أحوجنا في هذا المنعطف الصعب إلى أمثاله، ممن يحسنون الترفع ويجيدون تدبير الأمور حينما تدلهِم الأيام وتتكاثر الخطوب، وتستحكم الخطوب وتدلهم الدروب.
* لا نستكثره على ربه، ونبتهل إلى المولى عز وجل أن يتقبله في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يحسن إليه بقدر ما أحسن إلى وطنه ودينه وأهله، وأن يعيننا – مع أبنائه وأنصاره ومحبيه – على تحمل رزء فقده الموجع.. و(السلام يا المهدي الإمام).
مزمل ابو القاسم – صحيفة الانتباهة