قوم بارحها (2)
صباحكم خير – د ناهد قرناص
لا زال طيف الطيب صالح يلازمني في رحلتي هذه.. هذه المرة عرس الزين.. حفل الزواج الذي تفتح له كل بيوتات الفريق.. كان بيت عمي يضج بالناس كل الأهل والجيران.. بعض النسوة كن قد قضين ليلتهن وهن يساعدن الطباخ.. شاهدتهن وهن ينظفن الخضار ويرتبن أمر التوزيع.. صواني الفطور تمتد طويلاً والعديد من الشباب وهم يستعجلون النسوة.. جيب صحن فول.. وين اللحمة.. العيش ياجماعة.. ابتسمت تلقائياً.. متى كانت آخر مرة رأيت مشهداً كهذا؟..
صار الزواج في السنوات الأخيرة معبأ في صناديق.. فاقدا للطعم شأنه شأن الطعام المجمد.. الصالة وفطور العريس.. وتبعات البوبار والشو.. لو أتيت صباحاً ستجد بيت العرس هادئ لا لون ولا طعم ولا رائحة .. كل في شأنه.. والعجب لو كان هناك (منظم للحفل) لن تجد من أهل العرس من يعرف التفاصيل.. كل الأمور بيد ذلك المنظم او تلك الشركة التي تتولى زمام الأمر .. وتلك قصة أخرى.. لكن الأمر في خلاصته ان الفرح قد تمت سرقته.. لن تجد احساس الفرح.. سيكون كله عبارة عن دفتر حساب لما تم دفعه لأولئك الذين يخرجون المسرحية..
لكن هنا.. الأمر مختلف.. العرس هو فرح الحارة والشارع.. حتى الصغار تجدهم قد تذكرت زيجات اخوتي في عطبرة.. عندما كنا (نستلم )الشارع على حسابنا.. أهلنا يأتون من وادي حلفا والخرطوم وحلفا الجديدة.. فيتم حجز كل صوالين الجيران.. .الشباب في بيت ناس عم برياب.. البنات في صالون ناس عالم.. وناس رضوان.. الرجال عند ناس الغالي.. ولا تعتقد ان بقية البيوت خالية من المسؤولية.. أكيد تم استلاف أواني او سراير او مراتب.. بنات الحي قبل أسابيع في بيت العرس.. تجهيزات وتحضيرات.. هنا تكمن التفاصيل وتبقى الحكايات..
الذي نمارسه هذه الأيام شئ آخر.. قشور ومظاهر.. وانفاق لأموال في غير موضعها.. وبعد فترة لن تتذكر شيئا من تلك الصالات الغالية غير ذلك البرد الذي أرهق عظامنا .. وتلك الأموال التي أرهقت جيوبنا.. كل هذا الزبد يذهب جفاء.. لكن الذي يبقى في الارض هو تفاصيل الفرح الحقيقي الذي تشاركناه مع الآخرين.. انما خلق الفرح لينثر في الأجواء.. في فضاءات الأحياء حيث تنصب خيمة العرس في وسط الشارع.. الليلة عرس بت فلان.. وعريسها ولد ناس فلان من الحلة الفوق.. بص السيرة الذي تنتظره البنات أمام بيت العرس.. ويأبى السائق ان يتوقف.. .ويأخد كم لفة.. فقد أخذته (الهاشمية ).. (سواقنا زينة وحالف ما يدلينا).. (..جبنا ليك الغالي علينا و..جبنا ليك نور عينينا يا نسيبتو شن بتدوري ).. أين اختفى بص السيرة يا جماعة ؟
في الشمالية وجدتني أعود الى الزمن الجميل.. زمن الأفراح التي تمكث في الارض.. والذكريات التي تظل محشوة بالتفاصيل الصغيرة الجميلة.. الحفل البسيط الذي يحضره الجميع ولا تجد في كروت الدعوة عبارة (ممنوع اصطحاب الأطفال).. الحفل الذي يرقص فيه الجميع على أنغام الأغاني النوبية ودقات الطار.. هناك في أقصى الشمال كدت أن اسمع صوت الزين وهو يصرخ (يا ناس الحلة هووووي.. أنا مكتول في وادي حلفا).
د. ناهد قرناص – صحيفة الجريدة