مقالات متنوعة

مُغادرة رئاسةِ التحرير

-١-
(لحظةٌ ما)، تهمسُ لك بأنْ تتّخذ قرار المُغادرة، قد لا تروق لك الفكرة من أول خاطرة، وقد تجد من يسعى لإثنائك عنها.
كثير من الذرائع تُوضع أمامك، (يا زول لسع قِدّامك كتير ما تتهوّر).
وآخرون يخشون عليك من الدخول في مُغامراتٍ، يرونها غير مأمونة العواقب، وفي ظنِّهم ليس في العُمر مُتّسعٌ لبدايات جديدة.
وبعضٌ آخر يُزيِّنون لك الاستمرار بأنّك وحدك قادرٌ على تسيير الأوضاع على أفضل وجهٍ، وما دُونك الخراب والفناء!

-٢-
منذ عامين، تحدّثت لعددٍ من الأصدقاء برغبتي في مُغادرة رئاسة التحرير في ميقات دلالي ١٠ / ١٠ / ٢٠٢٠.
كانت بداية (السوداني) في مولدها الثالث في تاريخ ١٠ / ١٠ / ٢٠١٠، حين اخترت من قِبل مجلس إدارتها رئيساً للتحرير.
مضت عشر سنوات، كانت كافية لتقديم كل المُمكن والمُتاح، ما بعد ذلك زمن خاسر في ميزان التميز والعطاء.

-٣-
مصدر أزمتنا المُزمنة ووجعنا المستدام، عدم إحسان الختام في كل الأشياء، والرغبة الجامحة في استدامة البقاء بالمناصب.
كل أحزابنا السِّياسيَّة لا تعرف فضيلة المُغادرة الاختيارية للمواقع القيادية، فالمُهمّة متروكة دوماً لأجندة عزرائيل المُوسمية!
رئاسة الحزب أو الطائفة أو الجماعة مُهمّة مُطلقة بلا سَقفٍ زمني، قد تتجاوز نصف القرن من الزمان، ذلك ما لا يحدث في أي مكانٍ آخر!
كبار المُوظّفين لا يُغادرون مواقعهم إلا بقرارات الفصل أو الإعفاء أو المعاش الإجباري أو الموت!
لذا مع شيخوخة القيادات، تُصَاب تلك الكيانات أيضاً بالشيخوخة والعجز عن الإصلاح والتجديد، فتشتعل داخلها نيران الصراعات والانقسامات.

-٤-
جئنا إلى (السوداني) في ذلك الميقات العشري المنغم، لنجدها في ذيل الصحف مُثقلة بالدُّيون تُطاردها الشيكات.
بعزمٍ أكيدٍ وبروحٍ وثّابةٍ وعَملٍ جماعي دؤوبٍ، صَعَدَت إلى قمة التوزيع وسَدّدَت الديون، وحَصَدَت جوائز التميُّز.. وتحوّلت لمُؤسّسة رابحة، تُقدِّم أفضل شروط الخدمة للعاملين، تقف إلى جوارهم في السّرّاء والضرّاء وحين البأس.
ويقفون في خدمتها بتفانٍ نادرٍ يصلون عسس الليل بوهج النهار إلى أنفاس الفجر.
يحمونها بوحدتهم الفولاذية غير القابلة للاختراق.
يحمونها من كيد الكائدين وتَآمر المُتآمرين من ضِعاف النفوس وأهل الخسّة وأرباب الخُبث والخبائث.

-٥-
كان النظام السَّابق في تقاريره الداخلية يصفها بدعم التوجُّهات اليسارية، وأنّها تضم أشرس المُعارضين للحكومة في الوسط الصحفي.
أوقفوا الإعلانات الحكومية للضغط عليها حتى تستجيب لرغبة الحزب في عزل رئيس التحرير.
سَقَطَ نظام المؤتمر الوطني، وجاءت الحكومة الانتقالية، وناصبت بعض قواها (السوداني) بالعداء السَّافر.
منعوا صدورها بدوشكات الدعم السريع، وافتروا عليها الأكاذيب لتشويه سُمعتها، مُستجيبين لشكاوى كيدية مصلحية، وضعتها بليلٍ أصابعُ ملساء !
قالوا لن تعود (السوداني) للصدور ما لم يُقل رئيس التحرير!
المُستبدون ملة واحدة، يُفكِّرون بذات الطريقة ويستخدمون نفس الأسلحة الصدئة.
يُريدون للصحف أن ترقص على مزاميرهم وتُردِّد ألحانهم الرتيبة بلسانٍ لزجٍ وقواق، وأعينٍ جريئةٍ بيضاء.

جاء الموقف القوي لأهل (السوداني)، صحفيين وكتاب ومُوظّفين وعُمّالاً..
ودعم الوسط الإعلامي من الزملاء، وجهر غالب قيادات الحرية والتغيير برفضهم لذلك الظلم البائن ليوقف المُتآمرين عند حدِّهم، ويعيد (السوداني) لأرفف المكتبات وأيادي السرِّيحة وعيون القُرّاء.

-٦-
في كُلِّ مراحل التّحديات والصِّعاب، وسهر الليل، وكدح النهار، والتنمُّر السِّياسي من السابقين والراهنين على (السوداني).
ظلّ رئيس مجلس إدارة الصحيفة السيد جمال الوالي، داعماً وسانداً وحامياً، لهذه التجربة، يذود عنها بكلِّ شجاعةٍ وحكمةٍ.
وحينما طلبت منه السَّماح لي بمُغادرة منصب رئيس التحرير والاكتفاء بالكتابة في الصفحة الأخيرة.. رفض ذلك وطالبني بالاستمرار، وحينما وقف على إصراري بأن أفسح المجال لأخي وصديقي الشهم النَّبيل عطاف محمد مختار.. عرض عليّ الرجل الخلوق منصب رئيس مجلس الإدارة، مُتنازلاً عنه حتى يظل اسمي وعطائي مُرتبطاً بالمُؤسّسة.
ورغم رفضي لذلك، إلا أنّ الرجل بكرمه الجَم وحسمه اللطيف، فعل ما أراد من تشريفٍ لشخصي بذلك المنصب الرفيع بمهامه الجديدة.

-٧-
أثق تماماً أنّ الحبيب الكلس، (أخو الإخوان) عطاف محمد مختار، وهو واحدٌ من أهم أركان وفرسان الصحيفة، سيقود دَفّة التحرير بِكُلِّ جدارةٍ واقتدارٍ.
سيضيف الكثير لها، فهو شابٌ خلاقٌ وخلوقٌ ومبدعٌ، لا يرضى إلا بالتميُّز.

-أخيراً-
انتهت سنواتي العشر في رئاسة التحرير، لا أقول إنّها كانت خالية من الأخطاء والقصور لكونها جهداً بشرياً يومياً مُستمرِّاً.
سعدت وأدمعت، وأنا أطالع كل يوم زملاء وأصدقاء وقُرّاء يمنحونني بكرمهم ونبلهم الفيّاض من الود والتقدير أكثر مما استحق.
سأظل بعون الله في هذه المؤسسة في المنصب الجديد، أُقدِّم كل ما استطيع حتى تحافظ على ما حقّقت من نجاحٍ وتميُّزٍ.
سنظل أوفياء للقُرّاء، نجتهد من أجل كسب رضائهم، وسنسعى بكل المُستطاع لإحداث نقلة نوعية في تطوير المُؤسّسة حتى نسهم في تقديم خدمة إعلامية مُتميِّزة ومُتجاوزة للسائد والمُتاح.
سنظل نقف على حافة الحلم لنقاتل من أجل غد أفضل لوطن جميل رغم الجراح.
سنصلي من أجل استقراره وأمانه وسلامه، ونغني من أجل أولادنا السُّمر (ابقوا أفراحنا البنمسح بيها أحزان الزمن).
مودّتي لكم.
ضياء الدين بلال
السوداني