غنم إبليس !
* ظللنا نتباهى ونتفاخر ونلوك على ألسنتنا أننا الشعب المعلم واهل العلم والجود والكرم واصحاب الحضارة والتاريخ العريق (وأولاد الكيك وأب زرد)، واكبر واعرق دول افريقيا، ولدينا أطول انهار العالم ومئات الملايين من الأفدنة الصالحة للزراعة ومئات الملايين من الثروة الحيوانية، وتنوع بشرى ومناخي وثقافي لا يوجد في اية دولة في العالم وسلة غذاء العالم، وعندما يسألنا سائل، لماذا أنتم فقراء وجوعى ومحرومين، نتذرع بحجج واهية مثل الاستعمار، أو نلقى باللوم على الساسة ونحس براحة نفسية عميقة من هذه الاجابة التي تبرئنا من الذنب ونواصل تمثيل دور الضحية !
* في حقيقة الأمر، نحن شعب (سبهللى) ممعن في البدوية لا يعرف ولا يعترف ولا يحترم التخطيط، ويفتقد بشكل مطلق لثقافة التخطيط على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي، حتى أولئك الذين يخدعون أنفسهم بأنهم أرقى أهل الحضر، ويسخرون من غيرهم بأنهم أهل العوض، بينما كلنا أهل العوض!
* لم نتعلم ولم نتعود وضع برنامج أو هدف ليوم واحد دعك من أسبوع أو شهر أو سنة أو عشرة أعوام ونسعى لتحقيقه بوسائل ممكنة وموضوعية في إطار قدراتنا وامكانياتنا، حياتنا كلها قائمة على الصدفة المحضة، وشعارنا المرفوع (أجمل صدفة انا يوم لاقيتا)!
* قادنا عدم احترام التخطيط إلى المشكلة الأزلية التي تميزنا عن سائر خلق الله، وهى عدم احترام الوقت، فلماذا نحترم الوقت اذا لم يكن لدينا خطة أو برنامج أو هدف نريد تحقيقه في فترة زمنية معينة، فاليوم عندنا مثل أمس، وغداً مثل اليوم، وهذا العام مثل الذي مضى، ومثل الذى سيأتي وهكذا دواليك!!
* ألا تلاحظون ان الاشياء لا تتغير في السودان، واذا تغيرت فهي تتغير إلى الأسوأ، والسبب هو عدم احترام التخطيط وعدم وجود خطة، وعدم وجود هدف واضح، وحتى إذا وُجد الهدف ووجدت الخطة مثل التي تصدح بها اجهزة الاعلام وألسنة المسؤولين (عشرية) أو (خمسية) أو (ربع قرنية)، فإنها في الغالب تكون غير قابلة للتنفيذ، إما لأنها سيئة أو خاطئة، أو خيالية سكب فيها المخطط العبقري المصمم كل ما حباه الله به من خيال واسع وفكر خصب، مثل الذى يراود البعض أحيانا في احلام اليقظة، فيتخيل أنه ميسى أو رونالدو فجأة قلب الهوبة وجاب قون، والعالم كله يصفق ويهتف باسمه!
* أو مثل الذى يسرح مع غنم إبليس بأنه يعيش في قصر منيف، يحيط به مئات الخدم والحشم، ولديه صاروخ يلف به العالم بإشارة من إصبعه، واذا هفت نفسه إلى شيء، فهنالك مئات يأتون به، قبل أن يرتد إليه طرفه مثل الملك سليمان!!
* أو فتاة مراهقة تحلم بأن ينشق الجدار فجأة، ويدخل عليها فارس الأحلام ممتطياً صهوة جواد أبيض له جناحان، فيخطفها ويطير بها إلى مملكته في آخر الأرض، ويخلصها من العذاب الذى يذيقه لها اخوتها الذكور بأوامرهم التي لا تنتهي!
* وقد يكون الأمر أقل من ذلك بكثير بأن يحلم الشخص في طفولته بان يصبح طبيباً أو مهندساً، وعندما لا يتحقق الحلم، يظل مكتئبا يائسا يأكل في خاطره الى ينتهى العمر بدون أن يحقق أي شيء!
* وهكذا يمضي الوقت، وتصرع السنوات بعضها بعضاً، ولا يتغير شيء على أرض الواقع، وتتحول أحلام اليقظة إلى عشق سرمدي على مستوى الفرد، وعلى مستوى العائلة، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الشعب وعلى مستوى الدولة، وفيه يغزل الشعراء والفنانون أجمل الكلمات، وأعذب الألحان، التي تمتلئ بالأنين والحنين والأماني العذبة و(وبكرة يا قلبي الحزين تلقى السعادة) بدون أن يبذل العاشق الولهان أي مجهود لتتحقق له السعادة المنشودة!
* منذ ان تفتحت أعيننا على الدنيا وصرنا ندرك الاشياء، عرفنا وحفظنا عن ظهر قلب أن السودان هو اكبر بلاد افريقيا مساحة، وبه اطول انهار العالم ومائتا مليون فدان صالحة للزراعة ومائة وعشرون مليون رأس من الماشية، وتنوع بشرى وثقافي ومناخي لا يوجد في اي مكان في الدنيا، واننا سلة غذاء العالم التى ستنقذ العالم من الجوع، وظللنا نسرح مع غنم ابليس ونحلم باليوم الذى نصبح فيه اغنى دولة في العالم بدون ان نتوقف ونسأل أنفسنا ونخطط كيف نحوّل هذا الحلم الى واقع، لا على المستوى الفردي ولا الجماعي ولا الشعب ولا الدولة، (والساقية لسة مدورة، طول الليالي مدورة، مدى الخيال رقصت مدن غنت مدن، نامت مدن، عاشت ليالي مخدرة) .. وما زلنا نسرح مع غنم إبليس بدون أن نكتشف أننا نحن غنم إبليس!
الجريدة
زهير السراج