صراع القبائل السياسي في السودان يهدد الفترة الانتقالية
خلال يوليو (تموز) الماضي، في غرب السودان، احتشد في اعتصام سلمي الآلاف من سكان منطقة نيرتتي عند سفح جبل مرة بولاية وسط دارفور، التي اشتهرت بإنتاج الفاكهة والبرتقال على وجه الخصوص، قبل أن تحرق الحرب المتطاولة الزرع وتجفف الضرع. سكان المنطقة كانوا يطالبون ببسط الأمن والحماية من «الميليشيات» التي دأبت على اقتلاع الأرواح والثمر. ولقد شهدت مناطق فتا برنو وكبكابية وكتم اعتصامات مثيلة، لكنها سرعان ما تحولت عن سياقها السلمي بدخول ميليشيات مسلحة فرقت بعضها بالقوة وقتلت وجرحت وأحرقت. ثم تفشت النزاعات ذات الطابع العرقي في أنحاء السودان المختلفة وبلغت الشرق والجنوب، وهو ما عده محللون محاولة لشد البلاد من الأطراف وإجهاض التحول الديمقراطي فيها.
ظن كثيرون من المراقبين أن اعتصام نيرتتي والمناطق السودانية الأخرى، بداية عهد جديد يقوم على المطالبة السلمية بالحقوق، ونهاية لعهد طلبها عن طريق البندقية، الأمر الذي تطاول في إقليم دارفور لنحو عقدين من الزمان دون جدوى. لكن هذه الظنون والتحليلات ذهب أدراج الريح، إثر هجمات الميليشيات المسلحة المجهولة على محتجين سلميين، استلهموا نجاح اعتصام نيرتتي في تحقيق مطالبهم.
سكان نيرتتي انصرفوا، على الأثر، إلى منازلهم بعدما زارهم وفد مركزي على مستوى عالٍ واستجاب لبعض مطالب السكان على الفور، ووعد بمعالجة المتبقي منها باعتبارها عملية. وتتمثل المطالب في بسط الأمن، وإعفاء قيادات حكومية محلية، ونزع سلاح الميليشيات، وتأمين الموسم الزراعي، والقبض على مرتكبي الجرائم ومحاكمتهم.
رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك من جهته، اعتبر اعتصام أهل نيرتتي مشروعاً، ومطالبهم عادلة ومستحقة. وتبعا لذلك أرسل وفدا حكومياً من مجلسي السيادة والوزراء التقى المعتصمين، وقال في تغريدة على «تويتر»: «ننحني تقديراً واحتراماً للشكل الحضاري للاعتصام، والتعبير السلمي».
وتوصل الوفد، الذي قاده عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي، مع المعتصمين إلى اتفاق مع منظمي الاعتصام، وقضى الاتفاق بإنشاء محكمة عامة في المنطقة، وتشكيل قوة مشتركة من الجيش والدعم السريع والشرطة لجمع السلاح وحسم الانفلات الأمني وتأمين الموسم الزراعي، وتنظيم التعدين الأهلي، ودعم مبادرة التعايش السلمي في الإقليم.
وإثر استجابة الوفد الحكومي لمطالب سكان نيرتتي تزامنا مع، أو بعد، نظم مواطنو مناطق فتا برنو وكبكابية وكتم اعتصامات مثيلة للمطالبة بذات الحقوق، لكن قوة مسلحة مجهولة هاجمت المعتصمين في فتا برنو وقتلت منهم نحو عشرة أشخاص وجرحت العشرات، وأحرقت المنازل والمتاجر، ما أعاد للأذهان ذكرى مأساة «فض اعتصام القيادة العامة» في الخرطوم.
مبدأ المطالبة السلمية
لقد رسخت «ثورة ديسمبر» 2019 مبدأ المطالبة السلمية بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأفلحت في إسقاط نظام حكم الإسلاميين عبر التظاهرة والاعتصام والاحتجاج السلمي. وهو ما اتبعه المحتجون في دارفور، وفي 13 منطقة أخرى من البلاد، لكن قوة «مجهولة» – ومعروفة في الوقت ذاته – وجهت إليها أصابع الاتهام بترويع المعتصمين السلميين في دارفور، وهي قوى ميليشيات الجنجويد السيئة الصيت.
هذه الميليشيات عرفت إبان النزاع الدارفوري ابتداء من 2003 وحتى سقوط نظام حكم عمر البشير، الذي يتهم هو وبعض مساعديه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بتسليح الميليشيات القبلية بعضها ضد بعض مبتدأ الأمر، ثم تسليح ودعم المجموعات ذات الأصول العربية ضد المجموعات ذات الأصول الأفريقية. وقد مثل علي كوشيب، زعيم الجنجويد، طوعياً أمام محكمة لاهاي بانتظار محاكمته.
أما في شرق السودان، وتحديداً، في ولايات كسلا والبحر الأحمر والقضارف، فقد اتخذ الصراع أبعاداً إثنية بين مكونات الإقليم وقبائله. وما يُذكر، أن هذا الإقليم يعاني من شح الموارد والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وهذه المعاناة قديمة العهد كمعاناة دارفور، ولكن مع فارق واحد هو الثراء الطبيعي في دارفور. هذا الثراء جعل الصراع في دارفور يأخذ شكل التنافس على موارد الإقليم بين مجموعات سكانية متكاملة ضد مجموعات أخرى. في حين اتخذ الصراع في الشرق شكل الصراع القبلي على الموارد الشحيحة أصلاً.
صراع الشرق
الصراع في شرق السودان اتخذ الشكل القبلي في شقيه الاجتماعي والاقتصادي، وهو تارة يدور بين سكان الإقليم الأصليين أنفسهم على الموارد الشحيحة، وتارة أخرى بينهم والوافدين. ثم إن له أبعاده التاريخية، لكن عدداً من النزاعات تفجر عقب سقوط نظام عمر البشير، وتكوين الحكومة الانتقالية، وأخذ منحى إثنياً بين المجموعات السكانية في الإقليم.
بعد أيام قليلة من نجاح الثورة، اندلع نزاع بين قبيلتي النوبة والبني عامر في ولاية القضارف، ففي مايو (أيار) 2019 اندلعت اشتباكات دموية بين المجموعتين، أدت لمقتل امرأة وحرق عدد من المنازل، وسقوط عدد من المصابين بين الطرفين. وتدخلت السلطات المحلية في حينه، وأفلحت في توقيع وثيقة للتصالح بين الطرفين، نصت على أهمية التعايش السلمي وإيقاف الأعمال العدائية بين الطرفين.
ثم انتقل التوتر بين المجموعتين إلى ولاية كسلا، إلى الشرق من القضارف. وشهد شهر مايو (أيار) 2020 في مدينة كسلا معارك دامية بين مجموعتي النوبة والبني عامر، راح جراءه عدد من القتلى والجرحى وأحرقت منازل، إثر مشاجرة بين فردين، استنصر كلاهما بقبيلته. ولاحقاً، امتد التوتر شرقاً إلى بورتسودان، حاضرة ولاية البحر الأحمر، وميناء السودان الرئيسي.
في الأسبوع الماضي، تجدد نزاع أبناء النوبة والبني عامر في بورتسودان. وراح ضحية ذلك وفقا للجنة أطباء السودان المركزية 25 قتيلاً بينما بلغ إجمالي المصابين 87 فرداً، إضافة إلى حرق عشرات المنازل والمتاجر. هذا حصل بعد أقل من سنة على اتفاق أهلي بين المجموعتين يعرف بـ«القلد»، وقعه الطرفان في سبتمبر (أيلول) 2019. بعد معارك مشابهة بين المجموعتين، إثر ضغوط قوية من نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي هدد الطرفين بالإبعاد من البلاد ما لم يتوصلا لاتفاق.
صراع دارفور
نشب الصراع المسلح في إقليم دارفور في 2003. بهجوم شنته مجموعتان مسلحتان هما «حركة تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة»، على مناطق حكومية، تحت ذريعة اضطهاد المركز لسكان الإقليم من ذوي الأصول الأفريقية، وتسليح المجموعات ذات الأصول العربية للاعتداء عليهم. وإثر ذلك شنت الحكومة – وقتها – ما عُرف بـ«حملة تطهير عرقي واسعة» ضد المجموعات غير العربية. وأدت المواجهات إلى مقتل نحو 300 ألف شخص ونزوح ولجوء نحو ثلاثة ملايين من سكان الإقليم داخليا وخارجياً.
وبسبب الحملات العسكرية الانتقامية في دارفور، يواجه الرئيس المعزول عمر البشير ومعاوناه عبد الرحيم محمد حسين (وزير الدفاع وقتها) وأحمد هارون (وزير دولة بوزارة الداخلية وقتها)، فضلا عن قائد الجنجويد الموالية للحكومة علي كوشيب، اتهامات بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، من قبل المحكمة الجنائية الدولية، التي تطالب الحكومة الانتقالية بتسليمهم للمحاكمة بمقر المحكمة في لاهاي.
هذا، وتتكون أطراف صراع دارفور من الجيش السوداني والشرطة وقوات الجنجويد، وهي ميليشيا مكونة من مجموعات ذات أصول عربية، ولا تشارك فيها معظم المجموعات الرعوية ذات الأصول غير العربية. وعلى الجانب الآخر تتكون المجموعات المتمردة بشكل رئيس من «حركة تحرير السودان» (بجناحيها) و«حركة العدل والمساواة» والحركات المنشقة عنهما. ومعظم قوام هذه الحركات من مجموعات سكانية ذات أصول غير عربية أبرزها قبائل الفور والزغاوة والمساليت… وغيرهم.
ورغم التمظهر العرقي، فإن الصراع في دارفور – خصوصاً – بحسب المحللين، صراع اقتصادي على المرعى والمزارع والماء وملكية الأرض، بيد أنه أخذ الطابع الإثني وتخفى بثيابه. ويرى كثيرون أن مباحثات السلام بين الأطراف الدارفورية الجارية في جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، وبوساطة منها، لن تحل جذور النزاع الممثلة في «التهميش» الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لمكونات الإقليم، ما لم تتحقق التنمية المتوازنة بين أقاليم السودان، ومناطقه المختلفة.
مناطق أخرى
أيضاً، في جنوب كردفان والنيل الأزرق – أو ما يعرف بـ«المنطقتين» – اللتين تتقاسم السلطة فيهما الحكومة المركزية و«الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال»، دار قتال سياسي بثوب قبلي في نوفمبر (تشرين الثاني)، بين القبائل ذات الأصول العربية وتلك ذات الأصول الأفريقية.
وصراع جنوب كردفان صراع موسمي على المرعى والمزارع، غير أنه ارتدى هذه المرة ثوبا سياسيا بين قبيلة دار نعيلة (فرع من قبيلة الحوازمة) والنوبا الغلفان، وأسفر عن مقتل وجرح العشرات، ثم تجدد الأسبوع الماضي بما عُرف بمنطقة خور الورل. وتبادلت خلاله القوات الحكومية وقوات الحركة الشعبية الاتهامات بالتواطؤ كل مع طرف من أطراف القتال القبلي، وانعكس هذا النزاع على مباحثات السلام الجارية في جوبا، واتخذته الحركة الشعبية مبرراً للتشدد في موقفها من التفاوض.
أما صراع شرق السودان الحالي، أو النزاع بين النوبة (لا علاقة لهم بالنوبا في كردفان) والبني عامر، فيرجع إلى ثمانينات القرن الماضي، إثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري قوانين الشريعة الإسلامية، واستقطاب مجموعة قبلية محددة لتبني نزعة دينية متشددة كي تقود حملات ضد أنشطة اقتصادية واجتماعية اعتبرتها مخالفة للشريعة الإسلامية. ويومذاك، سقط عدد كبير من القتلى بين الطرفين، وترتبت عليه «ترسبات إثنية» ما تنفك تنفجر بين فينة وأخرى، ثم تهدأ وتعود الأطراف للتعايش فيما بينها، قبل أن يشتعل القتال جراء أقل المشاجرات.
تهميش ومؤامرة
كما سبقت الإشارة، يعيش شرق السودان أصلاً حالة من التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي دفعت مجموعات ذات طابع إثني، لتبني العمل المسلح ضد «المركز» الحكومي الذي تتهمه بممارسة التهميش ضدها… وهذا رغم أهميته الاستراتيجية للسودان، إذ يقع فيه ميناء السودان ومنفذه البحري الوحيد.
يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. وقعت الحكومة السودانية اتفاقية سلام في أسمرا، عاصمة إريتريا، عرفت بـ«اتفاقية شرق السودان»، أو «اتفاقية أسمرا» برعاية الحكومة الإريترية، وأنهت قتالاً مع الحكومة المركزية وحرباً دامت 13 سنة على حدود السودان الشرقية.
ولقد نصت الاتفاقية على إشراك «جبهة الشرق» في السلطة. وبموجبها أنشئ ما أطلق عليه «صندوق تنمية وإعمار شرق السودان»، وجرت تسوية لقضية المقاتلين عبر اتفاقيات تسريح وإعادة دمج. لكن الاتفاقية تحولت بسبب مماطلة حكومة البشير، إلى مجرد اتفاق لتقاسم السلطة مع مقاتلي «جبهة شرق السودان» وإعطائهم سلطة «اسمية»، دون تحقيق التنمية الكفيلة بخلق الاستقرار في الإقليم.
واليوم لا ينظر كثيرون إلى انفجار النزاعات العرقية الكامنة في غرب السودان وشرقه بعد «ثورة ديسمبر» ومجيء «الحكومة الانتقالية»، على أنها مجرد نزاعات قبلية محدودة. بل هم يشيرون إلى أن ثمة مؤامرة تدير خيوط اللعبة بالتنسيق مع أعداء الثورة والخاسرين معها لإفشال «الحكومة الانتقالية» وإجهاض الثورة، ومخاوف هذه القوى من نشوء نموذج ديمقراطي يستطيع تحويل السودان من «حديقة خلفية» إقليمية إلى بلد مستقر ونامٍ.
نُذر صراع سياسي يستغل التنوع الإثني
> إلى جانب الصراع الدامي بين البني عامر والنوبة، ثمة نذر صراع سياسي تستغل فيه الكتل الإثنية، بين المكونات المحلية. ولقد برز بشكل لافت في تعيين والي ولاية كسلا الجديد صالح عمار، الذي ترفض تعيينه إثنية الهدندوة وتخفي رفضها ذا الطابع الإثني بغلاف سياسي. وهو ما دفع المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء فايز السليك، لاتهام قوى سياسية – وتحديداً أنصار النظام القديم – بالعمل على «شد البلاد من الأطراف»، بهدف وقف التحول المدني.
ويربط السليك ما يدور في شرق السودان بما يجري في بقية أطراف السودان ولا يعزله عنها. ويقول إن الهدف منه «عرقلة التحول المدني، باستخدام الدولة الموازية وميليشيات النظام الإسلاميين» وعلى رأسها الأمن الشعبي، وعناصر خارج دائرة الصراع تحاول تأجيجه. ويضيف «النوبة والبني عامر مثلا، مهمشون وقضاياهم متشابهة، لكن بعض الأطراف تؤجج صراعات قديمة بينهم ترجع جذورها لمنتصف الثمانيات، فيما تحاول أطراف محلية ودولية جر الهدندوة باعتبارهم مكونا كبيرا لحلبة الصراع، وزيادة التوتر بما يهدد الفترة الانتقالية».
ويوضح السليك أن «الصراعات في السودان ذات دوافع مفهومة، لكن دوافع الصراعات لا تعفي الحكومة وضعف استجابتها الناتجة عن كثرة الملفات التي تتعامل معها. وهو ما أنتج فشلها على الجانب الأمني، وسهل لهذه الأطراف المناوئة أدوارها». وتابع: «الصراع على الولاة أصبح جزءاً من الصراع القبلي، ورغم أن قضايا المجموعات المتنافرة واحدة، وهناك جهات تؤجج الصراع بين الهدندوة والبني عامر».
ويشير مصدر قريب من الأوضاع في شرق السودان، إلى تقاطعات إقليمية ودولية تحاول الاصطياد في مياه البحر الأحمر وتعكيرها، لتحقيق أجندات مرتبطة بالنزاعات بين الدول المحيطة. ويشير المصدر بشكل خاص إلى دور عرقية التيغري التي تعمل على زعزعة الأوضاع في إثيوبيا من جانب، وسعي مجموعات إريترية للحفاظ على موطئ قدم في شرق البلاد من جانب آخر. وكل ذلك مرتبط بدور قطري تركي، يُلعب من خلال أنصار النظام المعزول والإسلاميين.
جولة تاريخية أنثروبولوجية في شرق السودان
> يتحدث البروفسور حسن مكي، المتخصص في شؤون الإقليم والقرن الأفريقي، عن الصراع في شرق السودان وتأسيس الدولة السودانية، فيقول «لشرق السودان تاريخيا وضع استثنائي لأن بعض مدنه ألحقت بالسودان في وقت متأخر». ويشير إلى أن مدينة سواكن أضيفت للسودان عام 1902 بعدما كانت خاضعة للدولة العثمانية، ثم لمصر بعد سيطرة «الحكم الثنائي» على السودان بعد معركة كرري.
ويتابع مكي «ثاني مدن الإقليم، أي مدينة كسلا، كانت تحت الإدارة الإيطالية حتى 1894. وعندما تخلى الإيطاليون عن المنطقة بعد معركة عدوة (في إثيوبيا) 1894 للبريطانيين الذين كانوا يستعمرون السودان، صارت كسلا أول مدينة تستعاد للسودان، عن طريق الزعيم الديني الشهير السيد علي الميرغني، الذي تسلمها باسم الجيش المصري الإنجليزي، الذي يحكم السودان.
ويتابع البروفسور مكي شارحاً «اختارت قبائل البني عامر الانتماء للسودان، والتخلي عن الجيش الإيطالي، الذي كان يتكون محلياً منهم أساساً. وبانسحاب إيطاليا اختاروا الذهاب مع السيد علي (الميرغني)… إن المكونات الثقافية في شرق السودان (الهدندوة والعبابدة والبشارية والبني عامر) لها وضع مختلف لأنها قبائل مشتركة بين السودان والحبشة قديماً (إريتريا وإثيوبيا حالياً).
أما دينياً فقد انقسم سكان الإقليم بين الطائفتين الكبيرتين في البلاد، إذ انقسم الهدندوة بين أتباع الزعيم العسكري المهدَوي عثمان دقنة ووالوا المهدية (طائفة الأنصار)، وبين المجموعة التي اختارت الولاء لطائفة الختمية بقيادة السيد علي الميرغني. أما البني عامر فيوالي الجزء الأكبر مهم السيد علي الميرغني والسيدة نفيسة، بجانب الخلافات العرقية الموجودة.
ويشير مكي إلى ظهور حركة «علي بيتاي» المكونة أساساً من الهدندوة، والتي لعبت بقيادة «سلمان بيتاي» دوراً معارضاً قوياً ضد حكومة الإنقاذ بتحالفه مع «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة د. جون قرنق، ثم أصبحت حليفا للإسلاميين، وهم لا يتبعون للختمية ولا الأنصار.
ويضيف مكي أن أهمية الإقليم زادت بإنشاء موانئ البحر، ما جعل أمن المملكة العربية السعودية يرتبط بالساحل الغربي للبحر والموانئ السودانية، فيما أحست مصر بالخطر بعد دخول تركيا للمنطقة تحت ذريعة «ترميم ميناء سواكن»، وإلى الشرق تعتبر دولة إريتريا مدينة كسلا منطقة «أمن غذائي لها»، لذلك تخشى إريتريا بشدة زيادة نفوذ الحركات السلفية وسط البني عامر في كسلا، مثل حركة الجهاد الإريتري.
ويوضح مكي: «هذه خلاصات توضح أن ما يدور في المنطقة، بعد أن أصبحت ثرية، تتحرك فيها أموال كثيرة من التهريب وتجارة المخدرات، وبيع السلاح هنا وهناك، فضلا عن عائدات الموانئ على البحر الأحمر، الأمر الذي أحدث فيها متغيرات».
وشهدت المنطقة بحسب مكي متغيرات ديموغرافية نتجت عن الهجرات التي وفدت إليها من غرب السودان وغرب أفريقيا، ما فرض جزراً لغوية وثقافية وإثنية، ويتابع: «لا أؤمن بنظرية المؤامرة، وأرى الصراع على الوظائف والرؤى، وحذر من التكوينات السياسية التي وصفها بأنها تستخدم الكتل الصماء في صراعاتها»، وأضاف: «الصراع الدائر في شرق السودان الآن جزء من الصراع الدائر في كل السودان، وهو ينبئ بتغيير الخريطة السياسية في البلاد، ربما قبل نهاية هذا العام».
الخرطوم: أحمد يونس
صحيفة الشرق الأوسط