المعارك الخاطئة/الخاسرة
من القواعد الراسخة في الحقل الاستراتيجي: لا تختار أن تخوض معركة قد تؤدى بك الى خسارة الحرب؛ فالمعارك التي تختار أن تخوض يجب أن تفضي بك الى الانتصار في الحرب. (the battles you choose must win the war). ومع أن نصف مقاعد الحكومة الانتقالية يشغلها كبار العسكريين، ويشغل نصفها الآخر سياسيون عقائديون، الا أنها تشكو، بتقديري، من ضعف شديد في النظر الاستراتيجي. خذ مثلا اختيارها تعديل بعض مواد القانون الجنائي، فهذا اختيار يدل على أنها قد أرادت أن تخوض معركة أيديولوجية، وأن تكون معركة في “الملف الديني-الاجتماعي” وليس في واحد من الملفات الأساسية التي قامت من أجلها الثورة الشعبية في ديسمبر من العام الماضي، مثل ملف الاقتصاد، أو ملف الحرب والسلام، أو ملف الفساد، أو ملف ترتيبات الانتقال نحو النظام الديموقراطي.
غير أن معركة تديرها حكومة انتقالية حول “الملف الديني-الاجتماعي” هي معركة في المكان الخاطئ، وفى الزمان الخاطئ، وعبر الوسيلة الخاطئة. ليس لأن مناقشة الأمور الدينية-الاجتماعية ممنوعة، أو لأن القانون الجنائي غير قابل للتعديل والتنقيح، ولكن لأن المواد التي تريد الحكومة الانتقالية تعديلها ذات صلة مباشرة باعتقادات عامة الناس وثقافتهم، وببعض الركائز الأساسية التي تقوم عليها الدولة، فلا ينبغي أن يأتي تغييرها أو الغاؤها على عجل ووفقا لأجندة فصيل من الفصائل المسلحة، أو وفقا لرؤية أيديولوجية لحزب مخصوص، وبقرار من حكومة مؤقتة غير منتخبة. أما إذا أصرت الحكومة أن تمضي في هذا الطريق فقد تستطيع، بقوة السلاح وبالزخم الاعلامي، أن تحقق نصرا في هذا الملف، ولكنه سيكون نصرا مؤقتا، وبتكلفة عالية، وسيقود الى خسائر أكبر على المستوى الاستراتيجي. أنظر مثلا الى ردة الفعل الشعبية في أول جمعة بعد القرار، إذ لجأت جماهير غفيرة الى المساجد، تعبر عن رفضها وسخطها، (ولا يهم هنا إن كانت تابعة للنظام القديم أو لم تكن)، ثم أنظر الى ردة فعل الحكومة:
• اغلاق بعض المساجد الكبرى،
• حشد القوات النظامية من مختلف وحدات الجيش والشرطة والمرور،
• اغلاق المداخل الرئيسية المؤدية الى وسط الخرطوم
• اغلاق الطرق المؤدية الى مقر قيادة الجيش بحواجز الاسمنت المتنقلة،
• مناشدة المواطنين عدم التحرك عبر الجسور أثناء ساعات النهار
ألم يكن من الأولى للحكومة الانتقالية أن تترك هذا “الملف” لنواب الشعب، والى نقاش مستفيض في برلمان ينتخبه الشعب، وفي مناخ تتوفر فيه الثقة بين المواطنين، وتتسع فيه العقول للحوار المستنير؟
أو خذ مثلا اختيارها تعين ولاة مدنيين دون مشورة مع أحزابهم، أو مع شركاء المصلحة في الولايات التي سيذهبون لإدارتها. فهذا اختيار يدل على أنها أرادت أن تخوض معركة، وأن تكون معركة في “الملف القبلي-الجهوي” وليس في ملف الخبز أو الدواء، أو الإنتاج الزراعي، ثم تأمل ما حدث من ردة فعل في ولايات الشرق والغرب والشمال من تذمر كاد يبلغ درجة التمرد الصريح.
أو خذ مثلا اختيارها، من قبل هذا وذاك، أن تجمع في يديها سلطة التشريع والتنفيذ والتخطيط، فهذا اختيار يدل على أنها قررت أن تخوض معركة، وأن تكون معركة في داخل “حواضنها السياسية”، دون أي اعتبار للوثيقة الدستورية التي وقعت عليها، ودون مراعاة لحالة التشظي والشقاق التي تعيشها تلك الحواضن، ثم تأمل ما وقع من ردة فعل في البيئة السياسية كلها.
وفى كل معركة من هذه المعارك لا يتوقع أن تحصد الحكومة شيئا، ولكن من المؤكد أنها ستبدد الرصيد الشعبي الذي ورثه لها الثورة السودانية (من غير حول ولا قوة لها)؛ وفى كل معركة من هذه المعارك ستجد هذه الحكومة نفسها مضطرة لما يلي: * حشد القوات النظامية من مختلف وحدات الجيش والشرطة وقوات المرور؛ اغلاق المداخل الرئيسية المؤدية الى وسط الخرطوم؛ اغلاق الطرق المؤدية الى مقر قيادة الجيش بحواجز الاسمنت المتنقلة؛ والإسراع الى مخزونها من “الغاز المسيل للدموع”.
وستكتشف عندئذ أن “حواجز الاسمنت” التي تضعها على الطرق تتحول تدريجيا الى “حواجز من الغضب” يتراكم بينها وبين عامة الناس، وأن “اغلاق مداخل الخرطوم” يتحول تدريجيا الى أغلاق المنافذ التي كانت تصلها بالقلوب، وتمدها بالدماء والهواء، وستختنق عندئذ كما اختنق الذين سبقوها في طريق العنتريات والمعارك الهوجاء، رغم ما توفر لهم من هراوات وغاز مسيل للدموع ورصاص حي.
على أن هناك خدمة كبيرة يمكن لهذه الحكومة أن تقدمها للشعب السوداني: أن تتخلى عن خوض المعارك الخاطئة/الخاسرة، وأن تتحول فورا الى حكومة “تسيير أعمال”، ريثما ترد الأمانة الى أهلها بالطريقة الديموقراطية المعروفة. ولا قوة الا بالله.
التجاني عبد القادر حامد
8 أغسطس 2020