حيدر المكاشفي

الطعام والسلام

كان من المأمول بعد نجاح ثورة ديسمبر واطاحتها النظام البائد الذي ساهمت في اطاحته بسهم وافر حركات الكفاح المسلح، أن تسارع هذه الحركات للقدوم الى الخرطوم للمشاركة الايجابية في رسم حاضر ومستقبل البلاد ما بعد حقبة (الانقاذ) الكالحة، ليس فقط لأن النظام الذي قارعته بالسلاح قد ذهب وسقط، بل ولأنها جزء من قوى الحرية والتغيير ومن الموقعين الاساسيين على اعلانها السياسي وشاركت في صياغته، ولهذه العوامل الموضوعية كان الكثيرون يؤملون في توقيع اتفاق سلام شامل يشمل كافة حركات الكفاح المسلح في غضون شهر بعد اعلان اسقاط النظام، ولكن للأسف لم يتحقق ذلك حتى توقيع الاعلان السياسي والوثيقة الدستورية وتشكيل حكومة الفترة الانتقالية، وماتزال قضية السلام تراوح مكانها مثل (بندول ساعة الجيب) يقترب حينا ويبتعد حينا آخر حتى يوم الناس هذا وبعد مرور عام على تشكيل الحكومة دعك من فترة الستة اشهر المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، ولايدري أحد متى سيتم الوصول لاتفاق سلام مع مكونات الجبهة الثورية، وحتى لو تم الاتفاق معها سيكون سلاماً جزئياً ناقصاً لوجود حركتين مؤثرتين خارج دائرة التفاوض الجاري حالياً بمنبر جوبا..
بالطبع لا أحد يغالط أو يكابر في أهمية السلام وأن يكون على رأس أولويات الفترة الانتقالية وأن يبذل من أجله كل الممكن وبعض المستحيل، ولكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب قضية أراها في تقديري الخاص تتوازى قدما بقدم مع قضية السلام هذا ان لم تتقدم عليه درجة، وأعني معاش الناس والتردي الاقتصادي والغلاء الفاحش، وما يحسه الناس بل ويكابدونه يومياً أن الحكومة تولي موضوع السلام الذي لا يعرف متى يتم للتعقيدات والتكتيكات والمناورات التي تكتنفه، توليه أهمية تفوق كثيراً ما تبذله من أجل القضايا الحياتية الحيوية العاجلة، ولعل ما يؤكد ذلك اشارة رئيس الوزراء بأن السلام يأتي فى مقدمة اهتماماتهم ثم يليه في الاهمية الوضع الاقتصادي ومعالجة الغلاء وارتفاع الأسعار، ولتعثر السلام كان لايجب أن تتعسر معه حياة الناس فتنطبق عليهم مقولة (ميتة وخراب ديار)، ولهذا نرى أن الحكومة تحتاج لاعادة ترتيب اولوياتها فتقدم الطعام على السلام، فالله سبحانه وتعالى دعك من الحكومة قدم الاطعام من الجوع على الأمن من الخوف في قوله تعالي في سورة قريش(الذي أَطعمهم من جوعٍ وآَمنهم من خوف). فمتى ما اختلت معدلات الاقتصاد وانتشر الجوع فلا يمكن أن يستتب الأمن لو أنفقت الحكومة ما في خزائن الأرض جميعاً، لأن الجوع قاتل إذا استمر حتي مع وجود الأمن، بينما يمكن اذا توفر الطعام أن يصمد الناس أمام الحصار والخوف من الأعداء..وحكاية الغنماية مع الكلب تظل عندي الأكثر تصويراً لثورة الجياع وتعبيراً عنها، والحكاية تقص عن غنماية منزلية كانت كلما شرعت في تناول بقايا الطعام التي يلقي بها السكان في الكوشة المجاورة تربص بها أحد الكلاب وهجم عليها، فتضطر للهرب من أمامه مفسحة له الكوشة بما فيها وتبقى بعيداً ترقب بغيظ الكلب وهو يستأثر بمحتويات الكوشة لوحده، وذات يوم يبدو أن الغنماية كانت جائعة جدا وكافرة جدا، أوَلاً يقولون إن الجوع كافر، إذن كان لابد لها في ذلك اليوم أن تسكت قرقرة بطنها الخاوية وتطفئ لسعة الجوع الحارقة بأية وسيلة ومهما كلف الثمن، حتى لو طلع لها أسد وليس كلب، فتوكلت على الحي الدائم واقتحمت الكوشة غير هيابة أو مبالية هذه المرة، وكالعادة غمغم الكلب وكر عليها ولكنها لم تفر ولم تلقِ له بالاً، غاظته هذه الجرأة فعلا صوته بالهوهوة، ولا جديد، زاد غيظه فحاول أن يكر عليها بقوة حتى تفر كالمعتاد، ولكن خاب ظنه وطاشت كرته حيث كان هو الذي فر هذه المرة بعد أن حملت عليه الغنماية في كرّة مرتدة وكأنها أسد هصور، ففر الكلب وهو مذعور إلى مسافة كافية تمكنه من الفرار مجدداً إذا عاودت الكرة، ووقف يلتقط أنفاسه ونظر باستغراب ودهشة ناحية الغنماية وأطلق سؤاله الذي سارت بذكره الركبان وصار مثلاً (الغنماية دي جنّت ولاّ شنو).
الجريدة

حيدر المكاشفي