شوبش برلين… الجري وراء السراب!
ما سمي بمؤتمر شركاء السودان، وتسميه حكومة قحت بمؤتمر المانحين، يبدو أنه يحمل أكثر من دلالة أو ينطوي على أكثر من نية، إذا لم نقل تناقض أو على أحسن تقدير مؤشرات خفية للتعامل مع السودان مستقبلاً، فالشريك له مصلحة مباشرة في الشراكة، لكن المانح يعطيك بلا مقابل فهل كان المشاركون في المؤتمر المذكور شركاء أم مانحين؟
وأول ما يلفت الانتباه غياب أو شح معظم الأشقاء وأبناء العمومة الذين كان المتوقع منهم أن “يحرروا” شوبش، ويعطوا بسخاء، حتى يتحمس الآخرون من “المعازيم”، ولكن يبدو أن الذي وزع الدعوات لهذه اللمّة، قرر انتقاء المدعوين بطريقة يفهمها هو بحيث يفرض أجندة ناعمة ظاهرها دعم السودان، وباطنها تمرير موجهات ملزمة لحكومة “قحت”؛ حتى تدخل بيت الطاعة الدولي وتستجيب لما هو مطلوب منها، مثل محاربة الإرهاب، وهذا بكل تأكيد مصطلح بات مفهوماً حتى عند رعاة الشاء والغنم، بأنه إنما يقصد به إلجام كل من يتحدث عن فكر أو نظام حكم أو اقتصاد أو تعليم إسلامي أو يدعو للفكاك من أسر المنظومة الدولية، ومحاولة تبني قيم قائمة على الفكر الإسلامي بكل ألوان طيفه المتعددة. وهذا شكل من الاستعمار الجديد أو “”neo colonialism وهو استغلال الرأسمالية والعولمة والاستعمار الثقافي للتأثير على بلد نامٍ بدلًا من الأساليب الاستعمارية السابقة للسيطرة العسكرية المباشرة أو السيطرة السياسية غير المباشرة.
ولو أن الحضور قرروا الدخول في شراكات ذكية مع السودان، بناء على أسس اقتصادية ونظامية واضحة، من أجل استغلال الموارد الطبيعية، بتقديم التقنية المطلوبة والخبرات، ومدخلات الإنتاج، وتطوير منظومة للتسويق، والنقل والتخزين، مع تأسيس بعض الصناعات التحويلية البسيطة، لإعطاء المنتجات قيمة إضافية، وتوفير فرص عمل، ومن بعد ذلك تأخذ كل جهة ما ينوبها من الدخل، لكان ذلك أجدى لكل الأطراف المشاركة، ولكن الطريقة التي أدير بها المؤتمر تشي بأن الأمر لا يعدو كونه سراباً بقيعة يحسبه السودان ماءً! فكثير من المبالغ المعلنة لن تصل إلى السودان، حسب تجاربنا السابقة في هذا الصدد، وإن هي وصلت لن تكون عليها رقابة أو متابعة بحيث تصل إلى المستفيد المعني بذلك، فهنالك تماسيح كثيرة وكل منها فاغر فاهه لابتلاع ما يأتي من الخارج دون رقيب أو حسيب.
ولو أراد بعض المانحين تقديم مساعدات مالية لفعلوا في أقل من يوم أو فقط بكبسة زر حتى تتحول الأموال مثلما حدث في حالات مماثلة قدمت فيها أموال طائلة لاحدي دول الجوار التي استلمت ما يفوق أكثر من عشرين مليون دولار أمريكي قبل أن يرتد إليها طرفها، ولكنها مقابل ذلك تحولت إلى مخلب قط يخوف به المانحون جيران تلك الدولة لتمرير أجندة محددة من بينها محاربة ما بات يعرف بالإسلام السياسي، وهو مسمى يحمل في طياته مخطط ترعاه دول ومنظمات تهدف في المقام الأول لجعل المجتمعات المسلمة، تخضع لسلطان الفكر الغربي أو بمعنى أصح تكون دائرة في فلك العلمانية بطريقة أو بأخرى، أما باستخدام الجزرة التي تقدم في شكل مساعدات كتلك التي يتحدث عنها شوبش برلين، أو باستخدام العصا، عبر مساندة العملاء لزعزعة الاستقرار السياسي مثلما يحدث من دعم مفضوح لخليفة حفتر في ليبيا. ولماذا لا يسعى بعض من يتحدث عن شطب اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، كفرنسا مثلاً، إلى الضغط على لوردات الحرب الذين يقيمون في فنادق باريس، من أمثال عبد الواحد محمد نور، حتى ينخرطوا في عملية تفاوض جادة من شأنها أن تضع حداً للتمرد في دارفور، ومن ثم يوجه ما يصرف على العمليات العسكرية والأمنية إلى التنمية والإنتاج والخدمات من صحة وتعليم وبنى تحتية؟
هذا المؤتمر، كما يقول المثل السوداني، ما هو إلا “دلوكة ورل” لن يكون له أثر إيجابي ملموس على أرض الواقع، علماً بأن حكومة قحت إنما تهدف من وراء ذلك لإشغال الشعب السوداني بآمال لن تتحقق أبداً، وهذا ما تشير إليه كل التجارب السابقة.
يا أيها السادة، لا داعي “للشحدة”، وإراقة ماء وجه السودان في المحافل الدولية، دون طائل، والحل يكمن في إيجاد الإرادة الوطنية القوية! ودعونا يا حمدوك ومن يقف معك من أنصار قحت “نمسك التور من قرونه” وظني أنك تفهم هذا الكلام جيداً، فإن بلادنا لديها من الموارد الطبيعية ما يكفي للنهوض بها، وكل ما نطلب ونحتاج هو قليل من الدعم الفني دون أن نسمح لأحد بالتدخل في شؤونا الوطنية أو أن يفرض علينا أجندة عبر وعود أشبه ما تكون بوعود عرقوب. لن تفيد أي شوبش، ما لم نمسك نحن بزمام المبادرة، “والبكا بحرروه أهله”.
محمد التجاني عمر قش
الراكوبة