التحدي الإقتصادي قضية وطنية وتهدد حياة كل مواطن، وترتبط بكل شرائح المجتمع
Economic collapse
(1) الأمر ببساطة شديدة، وخلال مباحثات صندوق النقد الدولي مع الحكومة تم إقتراح إلغاء الدعم السلعي وجاء في تقريرهم (يرى المانحون خطرا أخلاقيا في تمويل شبكة الأمان الإجتماعي قبل أن تلتزم الحكومة بصرامة بإلغاء دعم الوقود)، وكانت الحكومة قد طلبت ٢ مليار دولار (شبكة أمان إجتماعي) وتم تسميتها لاحقا (برنامج مساعدة الأسر الفقيرة)، كما طالبت بمبلغ ٦ مليار دولار دعما للإستقرار الإقتصادي، وتوقع الصندوق حينها ان يزيد التضخم ما بين ٤٤-٧٧٪. وعاد الصندوق في أبريل عام ٢٠٢٠م للقول ان حجم التضخم بلغ ١٠٠٪.
وفي المقابل فإن وزير المالية ولإرضاء الحاضنة السياسية، أي قوي الحرية والتغيير أقترح زيادة كبيرة في الهيكل الراتبي، وتم تنفيذه بشكل متعجل بداية يونيو ٢٠٢٠م.
وقد أدت هذه الإجراءات إلى نتائج كارثية، ففي ظل عجز مالي وتناقص الإيرادات، حيث تراجعت بما يتجاوز ٢٠٠ مليار جنيه سوداني، وشح الموارد الأجنبية اضطرت الحكومة خلال الأشهر الماضية إلى طباعة تريليون و٥٠٠ مليون جنيه سوداني أي ما يقارب ٥٠٪ من الموازنة الكلية، هذا يؤشر لحجم المأزق الإقتصادي.
لقد ارتفع التضخم في شهر مايو ٢٠٢٠م الي ١١٤٪ وزادت اسعار السلع الأساسية بنسبة ٧٠٠٪ (تقرير IMF) وتزايد الضغط الشعبي مع صعوبة الوضع المعيشي وانعكس ذلك على بقية الخدمات الأساسية والضروريات الحياتية حيث انعدمت اغلب الأدوية من أرفف الصيدليات ومنها المنقذة للحياة وأدي تأخر صيانة محطات الكهرباء وعدم توفر الوقود لقطوعات تصل إلى عشر ساعات في اليوم وقد تزيد، وهو ما يؤثر على الناتج القومي وتوقف الصناعات أو زيادة التكلفة.
لقد أدت جائحة كورونا، وإنخفاض أسعار النفط إلى تقليل قدرة الحكومة الإنتقالية على المناورة خارجيا، وتراجع الحماس الداخلي ومع إنعقاد مؤتمر شركاء السودان اليوم ٢٥ يونيو ٢٠٢٠م، ومع ضعف الوعود والتي لم تتجاوز ٩٠٦ مليون يورو منها ٣٥٦ مليون يورو مواد عينية، و التجارب السابقة تؤكد أن هذا المبلغ قد لا يتم تحقيقه، فقد كانت التبرعات عام ٢٠٠٨م تتجاوز ٤.٨ مليار دولار ولم يتحقق منها سوي مليار وخلال ست سنوات، كما تعهدات مؤتمر شركاء أن أقل كثيرا من التوقعات والآمال والضرورات الملحة، وسيتم تنفيذه خلال ثلاث سنوات، وفوق ذلك ظلت قضية الديون الخارجية والعقوبات الأمريكية قائمة، ولم يعد بإمكان السودان الحصول على قروض، كما لا يمكنه الاستفادة من اتفاقية HIPC وعليه فإن السراب قد أنكشف وهذه الغمامة لم تمطر، مع أن الغالبية مسبقا تدرك أنها برق خادع، لا ينساق خلفه سوي غر.
(2)
حتى العام ٢٠١٨م فإن المرتبات (تعويضات العاملين) تمثل ٢٣٪ من مجمل الإنفاق العام، ومع زيادتها أكثر من ٥٠٠٪ فإن ذلك يعتبر قفزة كبيرة في نسبة هذا الفصل، ولمقابلة ذلك تمت زيادة رقمية في حجم الموازنة العامة وهو أمر يتم كما يبدو دون دراسة مسبقة ، وعليه فإن هذه القفزة ستؤدي لتوجيه كل الإيرادات لتوفير المرتبات نهاية كل شهر، وقد واجهت بعض الولايات إشكالات في صرف المرتبات ناهيك عن أي مشروعات تنموية أخرى، وقد اضطر ذلك وزير المالية في ٩ يونيو ٢٠٢٠م لتشكيل لجنة برئاسة وكيل المالية للنظر في معالجة هذا الأمر، وهذا نموذج لكيفية التعامل مع واقع إقتصادية معقد بقرارات متعجلة ووصفة لا تتناسب مع واقع العالم الثالث.
لقد أدي زيادة عرض النقود مع عجز الإنتاج لتصاعد التضخم لدرجة (الإنفلات) وبدأ التجاذب بين وزارة المالية والبنك المركزي وقد وصف تقرير مجلس السياسات الخارجية الأوربي ببرلين ذلك (إن وزارة المالية والبنك المركزي في غرفة الإنعاش)، والحقيقة أن التضخم بأرقامه المتحققة والمتوقعه وجمود العملية الإنتاجية والكساد الإقتصادي واعتماد أسلوب طباعة النقود مؤشرات على الإنهيار الإقتصادي Economic collapse
وهذا واقع مرير.
(3)
تتصاعد أسعار العملات الأجنبية كل يوم وآخر ففي العام ٢٠١٨م ومع بدايات الحراك في ديسمبر من ذلك العام كان الدولار في حدود ٣٧ جنيها، وبنهاية المرحلة السياسية تلك في أبريل ٢٠١٩م كان في حدود ٦٧ ج للدولار وهو اليوم يتراوح بين ١٣٠-١٤٨ ج.
ومع غياب سياسات محددة للتحكم في الأسواق أو حتى معايير قياسية للأسعار والسلع والخدمات فقد برزت موجة جديدة من الغلاء المتصاعد ودخلت شرائح مجتمعية جديدة في قائمة الفقر والأرقام التي كانت تشير إلى ٤٥- ٦٠٪ فإنها اليوم تقترب من ٨٠٪، مع اختلاف في تعريف الفقر ونسبته وهذا وضع قاتم.
لقد تأخر توفير التمويل اللازم للموسم الزراعي، وارتفعت اسعار الجازولين بشكل مخيف (25 ألف جنيه للبرميل) مع صعوبة الحصول عليه ، مما يقلل الحماس ويزيد من تكلفة العملية الإنتاجية، خاصة أن سياسات التحفيز غائبة، فقد حددت الحكومة في وقت سابق سعر جوال القمح من المزارع بمبلغ (٣.٥ الف ج) وألزمت المزارع بالبيع للبنك الزراعي، بينما كانت الأسعار في أسواق المحاصيل تتجاوز ذلك الرقم بكثير، وفقط للمقارنة فإن طبق البيض في الخرطوم وصل إلى ٥٠٠ ج، أي أن جوال القمح يساوي سبعة اطباق من البيض.
(4)
وختاما، ولإنقاذ الواقع لابد من التأكيد على الآتي:
* أن المخرج هو توظيف الموارد الذاتية للإنتاج وحسن إدارتها، ومع إلتفاف شعبي ووحدة إرادة سياسية، يمكن أن نوفر ارضية للإنطلاق، وللأسف فإن بعض أجندة الحكومة تتجه للمزيد من التأزيم السياسي وتوسيع شقة المواقف الوطنية مع إنقسام داخل قوي الحكومة وتناقض مواقفهم بين الجهاز التنفيذي والقوى الداعمة، لدرجة التظاهر في ٣٠ يونيو القادم، ومهما كانت أجندة القوى الحزبية، فإن هم المواطن (لقمة العيش).
* وهذا الأمر لا يتحقق في ظل استقطاب سياسي وتجاذب وإحتراب، مما يقتضي تجاوز المرارات السياسية والشحن وحالة (فش الغبائن)، مع تحقيق سلام عادل دون مزايدات ومناورات.
*إعلاء الأجندة الوطنية، والإبتعاد عن الإصطفاف خلف محاور أجنبية، وإجراء مفاوضات بأفق شفاف مع المؤسسات العالمية والصناديق في المنطقة والإقليم.
* إدارة حوار مجتمعي واسع، مع كل الأطياف، وخاصة المتخصصين والمنتجين والفاعلين في مجال الاقتصاد والمال والتوافق على خطة شاملة ومانعة.
* إن التحدي الإقتصادي قضية وطنية وتهدد حياة كل مواطن، وترتبط بكل شرائح المجتمع، وهى بذلك محل اهتمامهم، ولا تخص فئة أو مجموعة.
*ولن يتحقق ذلك إلا عبر إرادة سياسية جديدة وحكومة جديدة، فهذه المجموعة الحاكمة محدودة الخبرة وشحيحة الخيال وقليلة الفاعلية.
إن الحديث عن محدودية التضخم كما قال وزير المالية وانه لا يتجاوز ٢٠-٣٠٪ فهذا محاولة لإخفاء حقائق (تمشي في الأسواق بتبختر)، وأرقام التضخم اوردها صندوق النقد الدولي، وعايشها الناس في كل حركة وسكنة. إن الواقع تجاوز حالة القلق إلى درجة الخوف من انفراط العقد المجتمعي، والله المستعان.
د. إبراهيم الصديق على
الخميس ٢٥ يونيو ٢٠٢٠م