حيدر المكاشفي

ارفع كراعك من رجلي

للسودانيين غرام مشهود بالثنائيات المتضادة، وتحتشد أدبياتهم بالكثير منها، على سبيل المثال هلال مريخ، يمين يسار، علماني اسلامي، عسكرية مدنية، ورجل كراع، فمن ثنائيات السودانيين أنهم يطلقون على ذلك الجزء من جسم الانسان ما دون الركبة وإلى الكعب، (الرجل) بكسر الراء، متى ما شاءوا، أو الكراع متى ما رغبوا، فمن يذكر الكراع يريد الرجل والعكس صحيح، إذ المقصود في الحالتين واحد، الرجل هي الكراع، والكراع هي الرجل، ومن مفارقات هذه الثنائية ذاعت حكايات وروايات وطرائف أشهرها منسوبة لأهلنا الرباطاب وحكاياتهم التي لا تنقضي مع قطر كريمة حين كانت لهذه البلاد سكك حديدية تجوبها بالطول والعرض وترفدها بالخيرات والزاد والخبرات، وتقول الحكاية، ان رباطابياً لاذعا اعتلى القطار وطفق يبحث عن موطئ قدم بين الحشود التي تكومت على الردهات والممرات وكان الوقت ليلا، وبينما كان يجهد ويلهث ويقفز فوق الاجساد ويعبر بين الاعناق في سبيل الظفر ولو بمساحة شبر، حدث أن وطئت أقدامه أحد الركاب وكان شايقياً مسيخاً فزجره بعنف (أرفع كراعك من رجلي)، وبدلاً من أن يرفع الرباطابي كراعه من رجل الرجل، إذا به يضغط عليها بقوة كما فعل ذلك الشرطي الامريكي المتوحش بعنق فلويد المسكين، ويصر على عدم رفع (كراعه) إلا بعد أن يعرف السبب الذي جعل (حقت الرجل رجل وحقته كراع وليست رجل)..وكانت حكاية…
واليوم يتجدد الجدل حول واحدة من أشهر هذه الثنائيات، ثنائية (علماني اسلامي)، وبهذه المناسبة تحضرني حكاية أشهر هتافين كانا يعبران عنها، هتاف (الخرطوم ليست مكة) والآخر المضاد له (الخرطوم ليست موسكو)، ويغلب على ظني أن هذين الهتافين المتقاطعين، ظهرا فى أعقاب نجاح انقلاب يوليو 1971م الذي نفذته مجموعة من عضوية الحزب الشيوعي منقلبة على انقلاب مايو 1969م الذي لم يكن عمره في السلطة قد تعدى العامين والشهرين وكان هو الآخر يساري النزعة والتوجه كما هو معروف، ولكن بدا للمجموعة التي انقلبت عليه أنه بدأ رحلة الانعطاف يمينا ولهذا سارعت لاعادته إلى مساره اليساري الصحيح ولعلهم لهذا السبب أسموا انقلابهم (الحركة التصحيحية) ولهذا أيضاً كان طبيعياً أن تكون أول عبارة تصحيحية يصيحون بها هي (الخرطوم ليست مكة)، لم يلبث الانقلابيون الجدد سوى ثلاثة أيام بلياليها حتى استعاد الانقلابيون الاوائل سلطتهم واستتبت الامور مرة أخرى للنميري عبر إنقلاب مضاد حتى على مستوى الهتافات ومنها كان الهتاف المضاد (الخرطوم ليست موسكو)..المهم أن هتاف (الخرطوم ليست مكة) ارتبط بأهل اليسار بينما أصبح هتاف (الخرطوم ليست موسكو) ماركة تجارية مسجلة باسم جماعة اليمين، وحتى هنا ظل أي هتاف في مكانه، ما لليمين لليمين وما لليسار لليسار، وسار كل هتاف في مساره، وثبت كل على موقفه، من يؤيد الدولة الدينية ومن يناصر المدنية حتى كان انقلاب الانقاذ ووجد الجماعة نفسهم على المحك بعد ان اعتلوا سدة الحكم فأصبح كل شيء في غير مكانه.. ومن محكات الحكم التي أربكتهم حتى هتف أحدهم بهتاف أهل اليسار، كانت القروض الربوية أحدها، اذ اذكر أن أحمد ابراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني المحلول وقتها، قال في معرض دفاعه عن القروض الربوية (لسنا في دولة مكة ولا دولة المدينة بل في دولة في هذا العصر)..وخلاصة ما أود الخلوص اليه على هامش هذا الجدل الدائري الذي يجعل البلاد تدور حول نفسها مثل جمل العصارة، هو أن للدولة السودانية خصوصيتها، لا هي دولة مكة ولا هي الدولة السوفيتية ولا هي الجمهورية الفرنسية، هي دولة السودان بما فيها من تباينات واختلافات وتعدد ثقافي واثني وبما تكابده من مشكلات وأزمات مختلفة ومتطاولة ومزمنة لا تعانيها غيرها وانما تخصها وحدها، وهي بمقاييس العصر الذي تعيش فيه دولة متخلفة وموبوءة بالمشكلات والازمات، ولو وجدت فقط من مآثر ومفاخر دولة المدينة العدل والمساواة والنزاهة والأمانة لكفاها ذلك ومكنها من الانطلاق، فعليكم بالقيم والمبادئ والأهداف الكلية وليس الشعارات واللافتات والهتافيات، فإذا توافرتم على ذلك وتعاضدتم عليه، فالمؤكد أن الخرطوم لن تكون غير الخرطوم وستكون مؤهلة لتدبر أمرها من داخلها ومن واقعها..
الجريدة

حيدر المكاشفي