جيوش قطاع خاص
لفت نظري فيديو في الوسائط، يعرض تخريجاً عسكرياً لبعض المجندين التابعين لإحدى الحركات المتمردة. الطريف في الفيديو هو الرتب الكبيرة التي يتمتع بها قادة جيوش تلك الحركات، فبعضهم لواء ركن وبعضهم فريق عديل! والمعروف أن حركات التحرر الثورية، بما فيها الجيش الأحمر الذي قادة مايو للسيطرة على الصين وفيه أكثر من مليون جندي، لا يستخدم الرتب العسكرية المعروفة في الجيوش “الحكومية”، وحتى جيش جون قرنق لم يكن يوزع الرتب، سوى رتبة “قائد” أو كوماندر، ورتبة جندي، ورتبة عقيد للقائد جون قرنق إسثناء، لأنه نالها في خدمته العسكرية الرسمية في جيش البلاد القومي.
المثير أيضاً في موضوع ذلك التخريج هو أن الحركات الآن في مراحل التفاوض الأخيرة مع الحكومة حول تحقيق السلام. وكانت الحركات تردد شعاراً واحداً هو إسقاط نظام البشير الذي تقول بياناتها أنه سبب التهميش لمناطقهم. وكان الظن أن الحركات سوف تتحول إلى العمل السياسي المدني بمجرد سقوط النظام وتعود إلى الخرطوم للمشاركة في الحكومة الانتقالية، تمهيداً لإجازة الدستور، الذي سيقر حقوق الولايات في إدارة نفسها والاستفادة من ثرواتها، وإجراء الانتخابات الحرة التي يختار الشعب من خلالها حكامه.
ولكن الحقيقة غير ذلك. فقد لاحظ الناس أن النخب الحاكمة منذ الاستقلال هي إما من العسكريين مباشرة، كما في نظام عبود وبدايات نظام نميري، وفترة سوار الدهب الانتقالية، وبدايات حكم الإنقاذ، وإما هي من خلفية عسكرية أو مدعومة من الجيش، كالحكومة الحالية. ولما كان الدخول للعسكرية ظل عبر السنين، مثله مثل الدخول للخارجية، مقصوراً على المحظوظين من أهل المراكز والأسماء والضهر المسنود، فقد وجد البعض أن الطريق الوحيد لدخول نادي النخبة المسيطرة هو عبر تكوين جيوش خاصة. وقد دلت التجربة منذ عهد الأنانيا الأولى على نجاح ونجاعة هذه الحيلة. وقد عاد جيش قرنق بعد اتفاقية نيفاشا، ليصبح جيشاً رسمياً معترفاً به، ونال رجال مدنيون مثل عقار والحلو رتباً رفيعةً تتقطع دونها أعناق الضباط المحترفين في الجيش النظامي، ويفنون عمرهم في الخدمة دون أن ينالوها.
ولذلك أنشأ كل من استطاع اليه سبيلا، جيشاً خاصاً، يخضع لقيادته الشخصية، ويتكون في أغلبه من أهله وعشيرته وأبناء قبيلته، ويحقق للملتحقين به حلمهم في نيل الرتب العسكرية دون جهد ولا دورات حتمية وامتحانات تأهيلية ولا تقارير أداء عبر السنين.
ثم أن هذا الجيش نفسه، بتبنيه لبعض القضايا والشعارات، يستطيع أن يدعي أنه حركةٌ سياسية، تناضل لصالح المهمشين من أهل الإقليم، ويستطيع أن ينال لقياداته مواقع متقدمة في جهاز الدولة المركزي عندما يحين الوقت، وأن يكسب تمويلاً ضخماً من الدول التي لديها مصالح في زعزعة النظام الحاكم وجيشه النظامي، كما تستطيع أن تكسب أموالاً أخرى عبر الارتزاق والحروب بالوكالة.
لكل ذلك، فلا تصدقوا أن السلام آت، وأن المليشيات سوف يتم حلها وتسريحها وإعادة دمج أفرادها في المجتمع المدني، أو إعادة تدريبها لإدماجها في القوات النظامية الرسمية، وتحويل الحركة إلى حزب سياسي يسعى بين الناس بالبرامج والدعاية، سعياً لإقناعهم بالتصويت لمرشحيه. واهمٌ من يظن أن هذه الجيوش الخاصة همها الديمقراطية، وصِدقُ التمثيل، والحكم الراشد النابع من إرادة الشعب.
هذه جيوش قطاع خاص، أنشئت لتحقيق مصالح خاصة، ولن يتنازل عنها أصحابها ببساطة لكي يعودوا “ملكية” ليس لهم من الأمر إلا صفوف البنزين والغاز، والشكوى لله من سوء الحال. ولا يوجد سوى حل واحد هو إعطاء هذه المناطق المهمشة حقها في السلطة وفي القوات النظامية القومية، وإعطاء لوردات الحرب هؤلاء ما يرضيهم ولو كان غير مستحق. ولنا في حرب مشار وسلفاكير عظة وعبرة.
محمد عثمان إبراهيم
الصيحة