رأي ومقالات

الهندي عزالدين: آخر سنوات “البشير” (19)

في أغسطس 2014م ، كتبتُ مقالاً من “برلين” من وحي لقاء مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني بروفيسور “إبراهيم غندور” بأعضاء الجالية السودانية في ألمانيا ، بعنوان (“غندور” رئيساً !!) . كانت إجابات “غندور” على أسئلة ومداخلات الحاضرين وأغلبهم معارضون للنظام ، قوية ومقنعة ومهذبة في ذات الوقت ، فلمع نجمه في تلك الليلة في سماء “برلين”، وأعجب حديثه وطلته شابة ألمانية من أصول سودانية كانت تجلس إلى جواري ، فعلقت قائلة ، بلكنة (خواجاتية) وعربي مُكسر :(الراجل دا ينفع رئيس) !! التقطت الفكرة من ثنايا حديث الشابة المولودة في ألمانيا ، ولا يربطها بتفاصيل السياسة في السودان رابطٌ ، غير أنها حسب ما علمت منها استمعت إلى عدد من الساسة السودانيين ، على منصات الجالية ، فخلصت إلى نتيجة مفادها تناسب “غندور” والرئاسة ، وهي نتيجة يشاركها فيها كثيرون .
لكن مقال (“غندور” رئيساً) سبب للرجل مشاكل في الحزب ورئاسة الجمهورية ، وأثار غيرة وحفيظة البعض، فحرّضوا عليه الرئيس السابق “عمر البشير” ، بزعم أن البروف يسعى حثيثاً لرئاسة الجمهورية، فاضطر إلى دحض تلك الفكرة التي سعى لترسيخها خواص “البشير” في ذهنه، فقال “غندور” في أكثر من حوار صحفي (أنا لا أرغب .. ولا أصلح لمنصب رئيس الجمهورية)!!
بالتأكيد .. لم أشاور “غندور” قبل كتابة المقال ، فقد قفل راجعاً إلى الخرطوم وظللتُ بعده لأكثر من أربعة شهور في ألمانيا بغرض العلاج، وتصادف أنني بدأت إجراءات السفر إلى “برلين” الجميلة قبل أن يطلب مني مساعد الرئيس مرافقته ، فما أن انتهت الرحلة الرسمية (خمسة أيام) حتى بدأت رحلة الاستشفاء الخاصة ، فقد كانت تأشيرتي تسري لمدة (شهر) ، بينما مدة تأشيرة الوفد الرسمي (5) أيام .
لم يكن الرئيس “البشير” مرتاحاً إلى مقال (غندور رئيساً) ، وكانت فكرة التنحي وتقديم الفريق “بكري حسن صالح” للرئاسة قد تراجعت كثيراً بعد تطور العلاقات مع السعودية والإمارات .
وقد تجلى لي استياء الرئيس من ترشيح “غندور” رئيساً ، عندما رافقته مع عدد من الزملاء في رحلته الأولى إلى “أبوظبي” مطلع العام 2015م . كانت مقابلته لي غير ودودة عكس مرات سابقة، وعندما جلسنا نحاوره بجوف الطائرة في رحلة العودة، انفجر غاضباً فينا ، وكان قد وجه قبلها بيوم بمصادرة (14) صحيفة على خلفية اختفاء صحفي من صحيفة (الدار). كنتُ أجلسُ قبالته في الحوار ، فقال وهو ينظر إليَّ شذراً :(صحفي يدس نفسو في عطبرة .. عشان يجوا يقولوا اعتقلوه ناس الأمن ؟!) ثم مضى في غضبته:(نحنا أفسد نظام في المنطقة؟!)، السفير السعودي -(يقصد السفير فيصل معلا) – قال لي : (صحافتكم بتصوركم للعالم كأفسد نظام في أفريقيا والحقيقة غير كدا) .. وعندما التقطنا معه صور تذكارية وجلستُ إلى جواره ،التفت قال لي بدعابة تعبر عن ما يجيش بخاطره :(نحنا زاتنا ح نقفل الجرايد دي كلها .. لا (مجهر) ولا غيرو .. بس نخلي جريدتين (الرأي العام) و(الصحافة) كأسماء تاريخية)!! حاولت مجادلته ، بينما ابتعد بقية الزملاء وعادوا إلى مواقعهم! المهم رسالته وصلت .. فهمتها ولم أعمل بها .
وكان قد رشحني لتلك الرحلة سكرتيره الصحفي الأستاذ “محمد حاتم سليمان” ، وكانت شخصيته قوية ومؤثرة على الرئيس . عندما نزلنا في المنطقة الغربية لإمارة أبوظبي لزيارة محطة كهربائية تعمل بالطاقة الشمسية، وأثناء تجوالنا بالموقع ، اقترب مني مدير مكتب الرئيس الفريق “طه عثمان” وقال لي :(أنا قلت ليهم .. “الهندي” لازم يجي الزيارة دي .. دي زيارة مهمة)!! التفتَ فوجد خلفه “محمد حاتم” ، فعاد وقال :(محمد حاتم برضو قال كدا)!
لم تكن علاقتي مع “طه” ودية ، فقد كتبتُ في العام 2013م مطالباً بإقالته هو ومدير مكتب “علي عثمان” اللواء أمن “إبراهيم الخواض” ومدير مكتب “نافع” اللواء أمن “الهادي مصطفى” ، فهؤلاء كانوا يحكمون الدولة -عملياً – في تلك الفترة ، إذا أضفت لهم اللواء أمن “عبدالغفار الشريف” .
لكن علاقتي مع الفريق “طه” تحسنت خلال عدد من الرحلات الداخلية والخارجية ، فهو رجل بسيط ، تلقائي، دؤوب، غزير النشاط ، موفور الطاقة، لا يعرف السكون، وقد يبدو لمن يقابله للوهلة الأولى (درويشاً) ، محدود المعرفة والموهبة، لكنه يتمتع بقدرات فائقة في اختراق الآخر ، أياً كان، والوصول إليه، كما يمتلك خاصية إرضاء المسؤول الأول وسلب عقله ونيل كامل ثقته، فعل ذلك مع معتمد العاصمة القومية الأول في عهد (الإنقاذ) العميد “محمد عثمان محمد سعيد” ، وسلب عقل البروفيسور “إبراهيم أحمد عمر” عندما كان وزيراً للتعليم العالي، ثم حين تولى منصب الأمين العام للمؤتمر الوطني بعد (المفاصلة) في العام 2000م . والبروف “إبراهيم” هو الذي قدّم ابنه المطيع “طه عثمان” إلى “البشير”، أثناء أداء الرئيس للعمرة في العام 2007م ، وقال له :(الزول دا هدية مني ليك) . وقد كان .
ظل “طه” مخلصاً وحارساً أميناً “للبشير” بعد تعيينه سكرتيراً في الحزب وبيت الضيافة ، وإلى أن ترقى مديراً لمكاتب الرئيس بدرجة وزير دولة منذ العام 2009م وإلى يونيو 2017م . نختلف معه كثيراً ، ولكنه كان (درقة) “البشير” ، وبقدر ما أضر “طه” بالرئيس السابق باتخاذ مواقف وقرارات سياسية متعجلة وغير مدروسة، كما أوحى له بالحذر والتوجس من مؤامرات تحيط به، إلا أن إقالة “طه” من منصب وزير الدولة مدير مكاتب الرئيس جعلت الرئيس في (الصقيعة) .. بلا سند سياسي وأمني ، واكتمل سقوط الرئيس يوم إعفاء الفريق أول “بكري حسن صالح” من منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية ، وتعيين الفريق أول “عوض ابن عوف” .
كاريزما “بكري” ونفوذه وشعبيته الطاغية في الجيش كانت عصية على أي انقلاب عسكري ، مهما كانت ترتيباته .
فقدَ الرئيسُ قرني استشعاره بذهاب “طه” إلى السعودية مغضوباً عليه ، وفقد سيطرته على الجيش بإحالة الجنرال “بكري” إلى التقاعد ليلزم بيته ، فيخلو المكان ويحلو الزمان للثورة .. ثم للانقلاب ، واعتقال الرئيس، دون حاجة إلى إطلاق طلقة واحدة !!

نواصل غداً.
الهندي عزالدين
المجهر

‫3 تعليقات