مقالات متنوعة

رفع الدعم هو الدعم الحقيقي 1-2

حسناً فعلت الحكومة بالرفع الجزئي للدعم عن البنزين. وحسناً تفعل حين ترفع الدعم جزئياً عن الخبز. وسيتوالى رفع الدعم التدريجي حتى يصل الوقود إلى السعر الحقيقي، الموحّد دون تمييز بين سعر تجاري وسعر مدعوم.

الواقع أن الحكومة لا تريد مصارحة الناس بالحقيقة. فبعد الضجة المفتعلة التي أثيرت عن الاعتراض على الميزانية، والزعم بأنه قد تم إعداد ميزانية بديلة خلال يومين، وإجازتها لتسري لمدة ثلاثة أشهر، كانت الميزانية قد أجيزت بالفعل، بكل زيادات الجبايات فيها، وبكل تفاصيل رفع الدعم عن السلع القليلة المدعومة. وسكتت الحكومة عن إعلان ذلك، ولكنها شرعت في التطبيق تدريجياً، وكان الأفضل لنا ولها أن تكون واضحةً وصريحةً في الدفاع عن ميزانيتها. إذ أن هناك حقيقة بسيطة لا يمكن القفز فوقها، وهو أننا بلد فقير لا يملك من الاحتياطيات المالية ما يكفي للضروريات، دعك عن ترف توزيع الوقود المجاني والخبز المجاني على كل أفراد الشعب، الفقير منهم والغني، وعلى الدول المجاورة كمان!

صحيح أن بلادنا غنية بالموارد الطبيعية والثروات الكامنة، ولكن الصحيح أيضاً أننا من أقل بلدان الكون في نسبة تحصيل الضرائب، وهي مصدر الإيراد الأول لكل الحكومات في الدنيا. نحن بلد يملك فيها الناس مئات آلاف سيارات الدفع الرباعي الفخمة، والقصور المنيفة، والشركات الكبرى، والمداخيل العالية التي تسمح بهذه الفشخرة التي نراها في الأعراس، والاستهلاك والسلوك البذخي، ومع ذلك فإن دافعي الضرائب هم بضعة آلاف فقط، أغلبهم إما من أصحاب المرتبات الضعيفة أصلاً، وإما من المؤسسات النظامية الواضحة كالبنوك والمصانع. وهذه لا تمثل إلا قمة جبل الجليد من اقتصاد البلد الحقيقي، الذي يعمل كله تحت الرادار، ويسمونه الاقتصاد الخفي.

الشاهد أن الدعم هو أكبر تشويه للاقتصاد، من حيث هو مصدر ضخم للفساد والتلاعب بالمال العام، وهو أكبر مشوه لعملية توزيع الدخل القومي، من حيث هو نسبة كبيرة من الميزانية تخصص لقطاع صغير من غير المستحقين، وهم سكان العاصمة والمدن الكبرى، بينما يحرم منه العاملون المنتجون الفقراء، من سكان الأقاليم والأرياف. والدعم هو قربة مقدودة لا يمكن ملؤها مهما نفخت فيها وزارة المالية مليارات الدولارات، ذلك أن نصفه يذهب للتهريب الداخلي، فيباع في السوق الأسود لنفس المواطن المسكين المستهدف بالدعم، ونصفه يهرّب إلى البلدان المجاورة. ولو استطاع السعوديون مثلاً، لقاموا بتهريب الوقود من السودان، فالبنزين عندنا أرخص مما عندهم ستة أضعاف (اللتر عندنا 6 جنيهات وعندهم ريال ونصف أي 39 جنيهاً)!

والدعم هو سبب الندرة والصفوف. لذا لا توجد ندرة ولا صفوف في السكر منذ أن تم إخراجه من الدعم، ولا توجد صفوف في زيت الطعام، ولا الحليب، ولا الخضروات والبصل واللحوم والبيض والكسرة والفول والعدس، رغم أهميتها في المائدة اليومية للناس.

إن رفع الدعم يوفر للدولة موارد حقيقية، لتنفقها على الدعم الحقيقي المطلوب، دعم المرتبات للعاملين، ودعم الأسر الفقيرة عبر آليات الرعاية الاجتماعية، ودعم مؤسسات تقديم الخدمات العامة، كالمدارس والمستشفيات والمياه والطرق وصحة البيئة.

ولعلنا نعشم في صحوةٍ ولو متأخرة، في أذهان وضمائر مالكي الأمر، فيقومون بدعم المنتجين الحقيقيين، وهم الرعاة والمزارعون، لكي يتحول ذلك الدعم إلى رأسمال مُستثَمر وليس دعماً للاستهلاك، يعود بزيادةٍ كبيرةٍ في الإنتاج والصادر، فتنخفض أسعار المحاصيل للمواطن المستهلك، وترتفع العائدات للمزارع، وعائدات الصادر لخزينة بنك السودان الفارغة.

الصاوي يوسف
الصيحة