أمين حسن عمر: ترويض الدولار
لايزال سعر الدولار هو المشكلة ولن تجدى سياسة رفع الدعم تدريجيا أو دفعة واحدة ولو جرى تعديل الاجور ما لم يتحقق تثبيت سعر الدولار بإزاء العملة الوطنية لأنه فى حال الإفلات من العقال التى يعيشها الدولار فسوف تتضاعف اسعار السلع المدعومة وغير المدعومة
وسوف تتسع الفجوة بين الجنيه والدولار وتتمظهر تلقائيا فى اسعار السلع المدعومة وغير المدعومة فلا مناص من معالجة الأزمة فى مكانها ومكانها هو حيث ( يبرطع ) الدولار.
المقال أدناه كتب فى يناير٢۰١٨ ولا أقول لايزال الحال هو الحال لأن الحال أنكى وأسوأ ويتجه لا سمح الله لمآلات لا يعلم إلا الله مآلها وعقباها.
المدونة السياسية
فى المسألة الإقتصادية… ترويض الدولار
د. أمين حسن عمر
رغم حالة التفلت الكبير فى سعر العملات الأجنبية فإن قرارات بنك السودان المركزى الإحتفاظ بسياسة تعويم سعر الصرف للجنيه السوداني ربما هى الخيار الوحيد الذى هو متاح فى الوقت الراهن . وهى سياسة ممتدة مجربة للتعامل بفاعلية مع الوضع المتذبذب لقيمة الجنيه السوداني وقيمة السلع المعروضة في الأسواق تبعاً لذلك. وتعويم سعر الصرف Flotation يعني ترك سعر العمله بالنسبة للعملات الأخرى يتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب في السوق النقدية . والتي تشهد مؤخراً زلزالاً وردات فعل وتوابع عديدة.
تعويم سعر الصرف وتحولات العرض والطلب:
تعويم سعر الصرف المعمول به في السودان هو (التعويم المدار) . وهو يختلف عن التعويم المطلق لسعر الصرف . فالتعويم المطلق هو ترك السعر يتغير ويتجدد بحسب قوى السوق ودون أي تدخل من البنك المركزي . وقد يقتصر تدخل البنك المركزي على التأثير في سرعة تغير سعر الصرف دون اللجوء للحد من ذلك التغيير . وهو الأمر المعمول به في منطقة اليورو وفي الدولار الأمريكي والين اليابانى والجنيه الاسترلينى والفرنك السويسرى . وهذه السياسة تقتضي قدرة واسعة لقوى الانتاج في ذلك البلد . كما تقتضي سرعة وقدرة وكفاءة الأجهزة المالية وهى متطلبات يحتاج المرء لشديد تفاؤل ليرجو توفرها . ففي بلد مثل السودان يعتمد بنسبة 80% على الاستيراد في تلبية احتياجات الانتاج والاستهلاك فإن التعويم المطلق للجنيه السوداني قد يخرج به عن السيطرة تماماً . لأن قوى الانتاج الضعيفة واحتياطات النقد الأجنبي الشحيحة لا تمكنان البنك المركزي من الجلوس بإرتياح في مقعد القيادة ، والسيطرة بالتالى على السوق النقدية التي قد يكون في مُكنة المضاربين والمحتكرين التحكم بها أكثر من قدرة السلطات النقدية بالبلاد . ولذلك فقد كانت السياسة المتبعة هي تعويم السعر المدار أى تلك السياسة التي تسمح للبنك المركزي بالتدخل استجابة للمؤشرات بيد أن الحذر شل أيادى البنك المركزى من إنفاذ السياسة بالجرأة اللازمة لإتباع المؤشرات التى تتمثل فى رؤية الفجوة بين العرض والطلب ، ومستويات السعر العاجل والآجل والتطورات الآنية في السوق ، مثل عطلات المغتربين أو مواسم الطلب العالي مثل موسم العمرة في رمضان وموسم الحج وما إلى ذلك . و هذه سياسة تتبعها ثلة من البلدان ذات العملة المرتبطة بالدولار أو اليورو أو سلة من العملات. والسودان الذي اعتمد رسمياً ربط الجنيه باليورو لسنين عددا لم يستطع أن يفرض ذلك على السوق النقدية بالبلاد . حيث يتعامل أكثرها بالدولار فتحتسب قيمة الجنيه السوداني به . وعلى الرغم من ذلك فقد كانت سياسة التحرير المدار سياسة ناجحة وناجعة . ضمنت للعملة الوطنية استقراراً طويلاً أمتد لأكثر من عقد كامل . وقد اتبعت هذه السياسة قبل تصدير البترول وأثبت نجاحها في تحقيق الاستقرار للجنيه السوداني . فما الذي جرى وسبب العواصف الأخيرة التي أضرت إضراراً بليغاً بهذا الاستقرار؟
صدمة الانفصال:
الاقتصاد المستقر قد يتأثر بصدمات تأتيه من الخارج فتؤثر فيه تأثيراً كبيراً. وما جرى للجنيه السوداني كان أمراً من هذا القبيل . فعلى الرغم من عدم تأثر الجنيه السوداني بصدمة الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2009م والتي أضرت بأسعار البترول وأرتفعت أسعار السلع المستوردة فقد استطاع الجنية السوداني آنذاك أن يستوعب صدمة الأزمة الاقتصادية العالمية . و لا تزال آثارها تتوالى علي جميع الدول في العالم وبخاصة الدول في العالم الثالث التى تعتمد علي الاستيراد لتوفير احتياجاتها الانتاجية والاستهلاكية. بيد أن صدمة الأزمة العالمية جاءت بعدها صدمة هائلة للاقتصاد. تمثلت في انفصال الجنوب واقتطاع 75% من انتاج البلاد وصادرها من البترول من الموازنة العامة وكذلك من عائد الصادر . فاختل بذلك الميزان الداخلى والميزان الخارجى بدرجات متفاوتة . بيد أن الأخطر من ذلك كانت هى الصدمة النفسية التي اقترنت بالانفصال . وتوقع الجمهور والسوق على وجه الخصوص لتقلبات واختلالات كبرى في الاقتصاد . مما أدى إلى حالة تشبه التوقف التام عن عرض النقود في السوق النقدية. وبات من يملك قدراً يسيراً أو كبيراً من العملات الأجنبية في حالة ترقب . وحالة انقباض عن التعامل في تلك السوق انتظاراً لتوازنها من جديد. ثم تعرضت السوق لحالة من الاستنزاف للموارد المحدودة التي ظل بنك السوداني المركزي يرفد بها المصارف والصرافات . وتمثل ذلك الاستنزاف في محاولة حكومة جنوب السودان استبدال ما لديها من عملة سودانية دفعة واحدة بالعملات الحرة . وطرح عمله جديدة لجنوب السودان وذلك خلافاً لتعهدها بأن لا تلجأ إلى هذا الأسلوب.
بيد أن بنك السودان المركزي الذي لم يكن ليثق في تعهدات حكومة الجنوب كان قد احتاط لمثل هذه الحالة بتجهيز عملة جديدة . فقام بطرح الأوراق المالية الكبرى منها من السوق وسحب الأوراق القديمة . لحرمان حكومة جنوب السودان من توجيه ضربة قاصمة للسوق النقدية من خلال سحب ما يربو على (700) مليون دولار دفعة واحدة . بيد أن حكومة الجنوب وبعض المضاربين المتعاملين معها قد أفلحوا في تهريب نسبة 15% حسب تقدير البعض . وذلك من خلال تهريب بعض الأوراق الكبيرة وكل الأوراق والعملات الصغيرة للسودان . وقد شكل هذا العمل رغم التحوط له قدراً من الضغط على سوق العملات في السودان في وقت كانت تعاني فيه من تراجع العرض على نحو مريع . ثم أن وفاء حكومة السودان بدفع تعويضات الجنوبيين العاملين بالسودان والسماح لهم بتحويل هذه الأموال إلى عملات أجنبية عند المغادرة أدى هو الآخر إلى مزيد من الضغط على المعروض المحدود. وأدى جفاف السوق النسبى إلى تهافت المحتاجين للعملات الأجنبية لأغراض الاستيراد أو العلاج أو التعليم أو حتى العطلات.
عودة السوق السوداء:
وأدى هذا التهافت الذي ترافق مع بروز أباطرة السوق السوداء مرة أخرى إلى شبه تجفيف كامل للسوق . عجز معه البنك المركزي على التعويض الذي هو السبيل الوحيد لمناهضة السوق السوداء. ولما أتسع الرتق على الراقع كان لابد من سياسة جريئة مسنودة بترتيبات محسوبة لإعادة السيطرة على سعر الصرف . ومناهضة وترويض الفئة الباغية التي تضارب في العملات للاسترباح ولو على حساب استقرار الاقتصاد الوطني وعلي حساب حصول المواطن البسيط على السلع الضرورية بأسعار معقولة . وكان لابد من حزمة سياسات مالية ونقدية وأمنية في آن واحد . وهي الحزمة التي اعتُمدت في الوقت الراهن. فوزارة المالية عليها اتباع سياسة مالية تقشفية مع أحلال الواردات وزيادة الصادرات . وتشجيع الاستثمار ذا العائد السريع . وبنك السودان عليه أن يحصل على موارد تمكنه من إعادة القبض على زمام المبادرة . وذلك بتوفير وسادة من النقد الأجنبى تمكنه من التدخل وإدارة سعر الصرف بعد تعويمه . وذلك للنزول به تدرجاً نحو الوضع الاعتيادي الذي يعود فيه عرض العملات الأجنبية طبيعياً . ويتوقف إحجام من البائعين الصغار أو الكبار . ويعود فيه الطلب إلى الوضع الاعتيادي الذي يتمثل في الاحتياجات الحقيقية (غير الاحتكارية) للعملات الأجنبية. وبنك السودان المركزى لابد له من ترك حالة الحذر المفرط وعدم إختيار مساحة وسطى بين خيارين فأن مثل هذه المساحة لا وجود لها.ربما أولى المعالجات هى المعالجة الذهبية .وأعنى بها شراء كل الذهب المستخرج بسعر مجزىء يتفق عليه مع المنتجين يناسب السعر العالمى للذهب وذلك من خلال قيام مجلس للذهب يضم الحكومة والقطاع الخاص وكبار المنتجين وممثلى التعدين الأهلى لتحديد سعر الشراء وتوفير الظروف الأنسب لتطوير الانتاج والحؤول دون التهريب الواسع لمعدن ناضب. وفى مرحلة أخرى تطوير المجلس إلى بورصة للذهب بعد إستقرار الأسعار.كذلك يمكن إحتذاء التجربة التركية فى سك جنيهات ذهبية وتوفيرها فى الاسواق لتكون وعاء للقيمة يطمئن إليه من يريد حفظ قيمة مدخراته. كذلك يمكن إعتماد صكوك الجنية الذهبى التىتضمن لحاملها استبدال الصك بسعر الذهب العالمى فى يوم الصرف وبذلك يمكن توفير ملاذات آمنة لمن يريد الدولار مخزنا للقيمة وهؤلاء هم العدد الأعظم من الفئة التى تهجم على الدولار ليس لشراء السلع أو للإستيراد وإنما لحفظ قيمة النقود وقد أتسع عدد هؤلاء بالتوسع فى السيولة بالجنيه السودانى بسبب الذهب.لاشك أن هذه الحلول هى أقوى المحفزات لتحقيق الاستقرار لكن أمورا أخرى تتعلق بالسيطرة على حجم السيولة فى الاقتصادية تظل ذات أهمية تكميلية.كذلك فإن تقليص المستوردات من خلال توسيع قائمة السلع الممنوع إستيرادهامؤقتاً حل مطلوب وإن كان مثل الدواء المر لطائفة من المستهلكين وللوزارة المالية لما له من أثر على تقليص عائدات الجمارك ولكنك فى عالم اقتصاد الندرة لن توفر شيئا حتى تقتطعه من جزء ما من الغطاء الاقتصادى.
ولا شك عندى أنه إذا أتبعت هذه السياسات بالجرأة المطلوبة فإنه هنالك تفاؤل عظيم بنجاح هذه السياسة (سياسة التعويم المدار) . خاصة إذا نجحت جهود بنك السودان في الحصول على موارد تقارب وتسدد لسد النقص المتوقع لهذا العام ما يعنى إعادة القدرة إليه لامتلاك زمام المبادرة.
كما أن تباعد شبح الحرب بين السودان وجنوب السودان وربما الأمل فى عودة لاستقرار للجنوب وربما عودة المفاوضات الأمنية التي يرجى أن تفضى إلى فتح ملفات النفط والملفات الأخرى سوف يبعث بروح من التفاؤل للأسواق . تحتاجها الاسواق لإعادة الطمأنينة والتوازن النفسي إليها. وإذا أدى بدء المفاوضات ونجاحها إلى نتائج فإن بعض تلك النتائج سيعنى حصول السودان على المزيد من موارد النقد الأجنبي . سواء من خلال ما تنتهى إليه المفاوضات أو مساعدات دولية كانت موعودة ولايزال الحصول على بعضها لا يستحيل . واذا ألهم الله الرشد للحركات غير الدستورية الحاملة للسلاح وبدأ شوط مفاوضات جديدة فإن نجاح المفاوضات سيفضى باذن الله لانقشاع السحب السوداء فى سماء الاقتصاد فالأوضاع الأمنية هى العامل الأكبر فى فساد كيماء الاقتصاد الوطنى. . وفى كل الأحوال توسيع دائرة الحوار والوفاق الوطنى والتشاور القومى الواسع سوف يعين على قراءة الوقائع أياً ما تكون ويوفر الحلول ببعض ماذكرنا وما غفلنا عن ذكره . و أهل السودان قادرون بحول الله على تسخير موارد بلادهم وطاقتها للتعامل مع ذلك الواقع أياً ما كان. والحكومة الوطنية عليها أن تثق بشعبها وربها الرزاق ذي القوة المتين.
أمين حسن عمر