ليس دفاعًا عن السودان
ابتداءً ومنعًا لأي توصيف أو تصنيف، فإنني أعتبر لقاء رئيس المجلس السياسي السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان بنتنياهو تصرفًا أرعن، ومخاطرة فردية، إذا صح أنه قام بهذه الخطوة، من تلقاء نفسه ودون الرجوع إلى الحكومة المفترض أنها هي التي تملك الولاية الحقيقية، وحق التصرف السياسي في العلاقات الدولية.
وليس كافيا للفريق البرهان، أن يبرر إقدامه على هذه الخطوة، بنواياه الحسنة وغيرته على مصالح وأمن السودان، فالأصل أن تتخذ مثل هذه الخطوات المفصلية عبر المؤسسات الدستورية، خاصة في بلد يعيش مرحلة تحول ديمقراطي، بعد حقبة مظلمة من الدكتاتورية، والفردية.
لكن رفض الأسلوب، لا يعني أنني أسمح لنفسي بتخوين أحد، ولا توصيف الفعل، فأنا من المؤمنين بأن السياسة، تتدرج ألوانها ودرجاتها، من الأسود الكالح، إلى الأبيض الناصع، وهي في هذا حالها حال الدين، الذي وضعت فيه ضوابط تمنع التكفير، و الإخراج من الملة، لمجرد الاختلاف في الاجتهاد والتفسيروالتباين في الرؤى والمذاهب.
في العلاقة مع إسرائيل يجب أن نعترف بأن العالم العربي غادر منذ أكثر من عقدين على الأقل، المرحلة التي كانت فيها الاتصالات، مع تل أبيب، رجسًا من عمل الشيطان، خاصة بعد أن قطعت دول عربية عديدة خطوات إضافية في هذا المجال، حين تجاوزت هذه الاتصالات حواجز السرية والأبواب المغلقة إلى اللقاءات العلنية، والاتفاقيات الرسمية.
وبغض النظر عن أسباب ما حدث، والكيفية التي وصلنا فيها إلى الحال التي يمر بها عالمنا العربي، فإننا يجب أن نعترف أن ما جرى من تحولات، لم يكن اختيارًا بل فرضته متغيرات كنا سببًا في حدوثها، أو ضحية من ضحاياها. لكننا في كل الأحوال أجبرنا وبدرجات متفاوتة على الرضوخ لها والتعامل معها حتى لو لم تكن منسجمة مع توجهاتنا الأيديولوجية وتفكيرنا السياسي.
ولعل التفاوت الحاصل، بين الفعل السياسي الرسمي، وردة الفعل الشعبية يجسد إلى حد بعيد، حالة الاضطراب في تصرفاتنا السياسية وخطابنا الإعلامي.إذ بقيت اتفاقيات سلام ناجزة مع إسرائيل دون رصيد شعبي، فيما بقيت العلاقات الرسمية رغم عقود على قيامها، تدور في فلك من العزلة والشكوك.
السودان ليس شاذًّا في حالة السيولة التي يعيشها عالمنا العربي، الذي وجدت دوله نفسها مضطرة لإعادة النظر في تحديد أولوياتها، ورسم سياساتها، عندما اصطدمت مصالحها الوطنية مع التزاماتها القومية.
حال السودان الذي يتطلع للخروج من حصار ومقاطعة غربية تعيق عملية التنمية وتمنع البلاد من قطف ثمار التغييرالديمقراطي الذي ينشده السودانيون، هي حال المضطر. فالعالم الغربي والولايات المتحدة تحديدًا لا تخفي تصريحا أو تلميحا أن رفع الحصار عن الخرطوم مرتبط بفتح قنوات مع إسرائيل.
الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل مصلحة أمريكية، وضمن أولويات سياستها وعلاقاتها الخارجية، وهي تضعها في مقدمة المصالح التي تتبادلها مع الساعين لإقامة علاقات وإنشاء مصالح مع واشنطن.
ومن هنا ينظر كثيرون إلى خطوة السودان في الاتصال مع إسرائيل، باعتبارها خطوة غير مقصودة في ذاتها، وليست فريدة في عالم تحكمه المصالح وتبادل المنافع . وهو—باتصاله المفاجئ بإسرائيل — لم يكن الدولة الوحيدة التي ربطت فيه الولايات المتحدة بين علاقاتها به، وبين فتح قنوات اتصال مع إسرائيل. صحيح أن هناك تفاوتا في الضغوط التي تتعرض لها الدول العربية، إلا أن هذا الأمر بات من بين أبرز أدوات السياسة الخارجية تجاه المنطقة العربية.
في السودان كما في الدول العربية الأخرى التي أجرت اتصالات بإسرائيل، لم تغير هذه الاتصالات المزاج الشعبي الذي ظل ينظر لإسرائيل كقوة احتلال ظالمة، وبقي البرود السمة الغالبة حتى على علاقات دول ارتبطت معها باتفاقات سلام ومعاهدات صلح، رغم مضي عقود على إبرامها. فالعلاقات والاتفاقات ناهيك عن الاتصالات – كما أظهرت التجربة الماضية — ، لن تكون لها قيمة حقيقية في مسار الصراع مع إسرائيل، إلا إذا توافر لها أساس عادل يعطيها قبولًا وتأييدًا شعبيًّا.
تاج الدين عبدالحق
إرم نيوز