جولة (الانتباهة) تؤكد استمرارها أزمة الخبز..
في مخبز ودبدر بحي المايقوما بضاحية الحاج يوسف، لم يجد رجل ستيني ظل يقف في صف الانتظار أمام نافذة شراء الخبز لأكثر من ثلاثين دقيقة، غير أن يطلق تنهيده ويقول «حكومات تجي وحكومات تغور وبرضو الخبز في أزمة»، حديثه هذا ورغم بساطته إلا أنه كان يحمل بين ثناياه الكثير من الدلالات، فالإنقاذ باتت صفحة من الماضي وحلت مكانها حكومة الثورة، ولكن لا تزال أزمة الخبز شاخصة تخرج لسانها ساخرة من كل التدابير الحكومية التي لم تتمكن من وضع حد لها، فهل هي مصنوعة مثلها والخبز أما أنها تعبّر عن وجود مشكلة حقيقية من اللت والعجن.
اتهامات في كل الاتجاهات
في مخبز ودبدر الذي وقفت لمدة ساعة وعشر دقائق حتى اتمكن من الحصول على ثلاثين قطعة خبز كما تم تحديدها، فان اراء المواطنين وتفسيراتهم للازمة ذهبت في اتجاهات متعددة، وهي ذات الاعتقادات التي وجدتها اربعة مخابز سجلت اليها زيارة بكوبر، سوق بحري وحي بانت بامدرمان وسوق مصنع الجنيد بالجزيرة، فالذين ظلوا يتحملون زمهرير الشتاء القارس ودرجات الحرارة المرتفعة في الصيف الغائظ ويقفون ايضاً في الصفوف تحت زخات المطر في الخريف، بالعاصمة والولايات منذ بداية العام 2018 الذي اطلت فيه ازمة الخبز بوجهها نسبياً فانهم ذهبوا في اتجاهات متقاربة في ايجاد تفسيرات عن اسباب ازمة الخبز، البعض منهم يؤكد انه قبل الثورة فان الدقيق المخصص للخبز يتم تسريبه للاسواق الداخلية وتهريبه خارج البلاد، فيما كان طيف واسع من المواطنين يرمي باللائمة على اصحاب المخابز ويتهمهم ببيع نصف حصصهم من الدقيق الى التجار ومصانع الحلويات، وبعد الثورة وتولي حكومة حمدوك فان الاسباب ذاتها ظلت تتردد ويضيف عليها البعض ان المطاحن والوكلاء يتحملون المسؤولية وان دولة الكيزان العميقة تتعمد عدم انسياب الدقيق الى المخابز، في كل الاحوال فان ازمة الخبز لدى المواطنين لم تشهد اختراقاً وان اصحاب المطاحن والمخابز والوكلاء هم المتهمون الاساسيون.
لا تسريب ولا تهريب؟
أزمة الخبز ليست حصرية على العاصمة ففي الولايات تبدو واضحة من خلال الصفوف الطويلة للمواطنين التي تتراص امام المخابز، قلت لرئيس اتحاد المخابز المحلول بولاية كسلا صلاح ابراهيم الحاج انكم تتحملون مسؤولية معاناة المواطنين بتسريبكم للدقيق المدعوم وضعف الانتاج، الا انه وفي حديث «الانتباهة» ينفي نفياً قاطعاً وجود تسريب للدقيق المدعوم بكسلا، وينوه الى ان حلقة المراقبة محكمة ولا يمكن اختراقها، ويضيف: ليس لدينا تسريب وهذه الحقيقة تؤكدها الجهات المشرفة على توزيع ومراقبة الدقيق والخبز بمحلية كسلا، والتي تضم جهات امنية وحكومية بالاضافة الى لجان المقاومة ،هذه اللجنة تعمل بمهنية وتعرف جيداً كمية الدقيق الوارد وتوزعها بعدالة على كل المخابز وتعمل على مراقبتها لذا اؤكد انه لا يوجد تسريب وحتى الدقيق الذي يؤكد البعض انه يتم تهريبه عبر كسلا فانه ربما يأتي من ولايات اخرى، ولكن حصة الولاية والمحلية لا تتعرض للتهريب لان الجهات المسؤولة تؤدي عملها باجادة تامة .
رفع جزئي للدعم
سألته عن اسباب ازمة الخبز في كسلا، فارجعها الى حصة الولاية التي قال انها لا تفي بحجم الاستهلاك، لافتاً الى انه بمدينة كسلا اكثر من ثلاثمائة مخبز وان كمية الدقيق التي يتم توزيعها لها لا تتجاوز في افضل حالاتها حاجز العشرة جوالات واحياناً دون ذلك بكثير، مبيناً ان هذا الوضع وفي ظل تنامي الحاجة الى الخبز وزيادة استهلاكه جعل المخابز تعجز عن الايفاء بالكمية المطلوبة من الخبز، وينوه الى انهم في اتحاد المخابز طلبوا من عضويتهم العمل رغم ضعف العائد تقديراً لظروف البلاد والمواطن واردف :هل تعلم انه وبحضور لجنة حكومية مختصة ولمعرفة تكلفة الجوال اخضعناه لكل عمليات صنع الخبز وكانت المحصلة ان انتاجه يبلغ الف ومائتي قطعة خبز فيما كانت قيمة تكلفته 1475 جنيهاً، وقال ان تكلفة الانتاج اسهمت في توقف عدد من المخابز، مشيراً الى ان سعر كرتونة الخميرة قفز فجأة من مبلغ الف وسبعمائة جنيه الى اثنين الف واربعمائة جنيه، بالاضافة الى ارتفاع اجور العمال وغيرها من مدخلات انتاج، غير ان صلاح يلفت الى انه وفي اطار ايجاد حلول لازمة الخبز فان ثمانين مخبزاً بمدينة كسلا تعمل بالدقيق التجاري وتبيع قطعة الخبز بواقع اثنين جنيه، وقال ان هذا اسهم في تخفيف الازمة بتوفيرها خبز المطاعم والمدارس وبيعه كذلك للمقتدرين ،ويعتقد ان حل المشكلة يكمن في زيادة حصص الدقيق للولايات، بالاضافة الى التوسع في المخابز التجارية التي تبيع قطعة الخبز بمبلغ اثنين جنيه.
دارفور ورفع الدعم
في ولايات دارفور تبدو الازمة مختلفة بعض الشيء عن انحاء السودان الاخرى ،فصاحب المخبز حامد بنيالا يقول ان الاختلاف يكمن في ان دارفور ومنذ ثلاث سنوات يبلغ سعر قطعة الخبز الواحدة فيها جنيهين، وقال ان هذا يعني ضمنياً رفع الدعم، سألته عن السبب فقال :عندما رفعنا سعر قطعة الخبز من جنيه الى جنيهين فان ارتفاع تكلفة الانتاج كان السبب المباشر والامر الثاني يتمثل في ارتفاع تكلفة ترحيل الدقيق وحتى العام الماضي كان يوجد استقرار في الخبز ولكن في الفترة الاخيرة فان المعاناة بدأت تطل بوجهها بسبب تراجع حصص ولايات دارفور من الدقيق، ولولا ذلك لما حدثت ازمة وكثيراً ما طلبنا بزيادتها ولكن دون جدوى.
أكثر من سبب
اتهام اصحاب المخابز بتسريب الدقيق والتسبب في ازمة الخبز امر يرفضه عضو اللجنة التسييرية لاتحاد مخابز السودان، ناجي عباس محمد الريح، الذي يرجع في حديث لـ»الانتباهة» ازمة الخبز الى عدد من الاسباب ابرزها كمية الدقيق المدعوم للعاصمة والولايات الذي يبلغ يومياً مائة الف جوال باستثناء يوم الجمعة الذي لا يشهد توزيع حصص دقيق، وقال ان هذا الرقم يعد بسيطاً مقارنة مع حجم الاستهلاك، واضاف:ن صيب سبعة عشر ولاية في اليوم يبلغ ثلاثة وخمسين الف جوال وهو رقم متواضع جعل الكثير من الولايات تعتمد على العاصمة في الخبز ومنها الجزيرة، نهر النيل والنيل الابيض، علماً بان حصة الخرطوم تبلغ ثلاثة واربعين الف جوال وهي لا تكفي حاجة مواطني الولاية وعليها ضغط من ولايات اخرى، وقال ان حصة الخرطوم تأتي من مطاحن سين بواقع عشرين الف جوال ،سيقا «12 الف جوال»، ويتا «10 الاف جوال»، وثلاثة الاف من مطاحن الحمامة واثنين الف من مطحن روتانا.
وقال ان عدد المخابز في العاصمة تبلغ ثلاثة الاف وسبعمائة مخبز وهذه الكمية يتم توزيعها عليها، منوهاً الى سبب اخر للازمة يتمثل في عدم وجود آلية رقابة محكمة على المطاحن لضمان انتاج الكمية الكاملة وايضاً عدم وجود رقابة على المخابز للحد من تسريب الدقيق .
مدخلات الإنتاج
ويمضي ناجي عباس محمد الريح في حديثه ويلفت الى ان ارتفاع تكلفة انتاج الخبز من المشاكل الحقيقية التي تواجه هذه الصناعة وتتمثل في الخميرة، الزيوت والعمالة، وقال ان هذا الامر اسهم في خفض وزن الخبز الى 45 جراماً وهذا ضاعف من ساعات العمل، وبذلك تراجعت الانتاجية لينعكس ذلك على المواطن الذي يقف فترة طويلة امام المخابز، معتبراً تباطؤ شركات الغاز في الاستجابة لطلبيات المخابز وعدم العدالة في توزيعه من اسباب الازمة، ويعتقد بعدم وجود عدالة في احتكار شركة سين لجزء من الدقيق المدعوم لتشغيل مخابزها، ويرى ان حل ازمة الخبز تتمثل في تفعيل الدور الرقابي عبر لجنة التسيير لمتابعة الدقيق من صبابة المطحن حتى عجانات المخابز وتمليك المعلومات كاملة عن حصص الدقيق للجان المقاومة بالاحياء، ويرى ان السماح للمخابز بانتاج نوعين من الخبز بحجم كبير وصغير للبيع بواقع جنيهين وجنيه مع الالتزام بالموازين، يسهم في زيادة الانتاج والحفاظ على العمالة، وينوه الى ضرورة رفع الدعم تدريجياً وذلك عبر تنفيذ سياسة المخابز التجارية في الاسواق والشوارع الرئيسة، ويرى في حدوث هذا ذهاب الدعم الى مستحقيه .
واخيراً يقول عضو اللجنة التسييرية لاتحاد مخابز السودان، ناجي عباس محمد الريح: يمكن زيادة دعم الدقيق بما هو مناسب لضمان استمرار عمل المخابز مع ضرورة احكام الرقابة على الدقيق بالمطاحن والمخابز بواسطة اللجنة التسييرية ولجان المراقبة.
حلول ومخارج
مخارج ازمة الخبز الحالية واضحة وتتمثل في زيادة حصص الولايات والعاصمة من الدقيق اولاً، بالاضافة الى احكام الرقابة بالمطاحن والمخابز، وثالثاً افتراع طريق ثان ويتمثل في الخبز التجاري الذي يبلغ سعر القطعة منه جنيهين، بالاضافة الى توفير الغاز للمخابز وبحث توفير الخميرة باسعار ثابتة لا تزيد
الانتباهة