الأزمة الاقتصادية عرض وليست المرض
هناك أزمة اقتصادية طاحنة ما من شك ولكنها ليست الداء وإنما هي عرض للداء ولذلك فكل ما يقول به ( خبراء ) الاقتصاد من حلول لها هي مجرد إجراءات فنية لتسكين الآلام ولكنها لا تخاطب جذور الأزمة.
– كذلك فان معظم ما يقدمه السياسيون من اعذار وأسباب للازمة هي مجرد اكاذيب غارقة في الإنكار وإعادة لذات الأكاذيب والحذلقات السياسية التي تستهدف كسب بعض الوقت بالقدر الذي يمكن السياسي من تطبيق المثل القائل ( دار ابوك كان خربت شيلك منها شلية)
– فالأزمة الاقتصادية هي العرض للمرض العضال والداء المقيم الذي لازم تاسيس الدولة السودانية والذي جعل نخبة مركزية صغيرة تحاول اعتساف تاسيس دولة تضمن لها احتكار الأمر العام واستخدام السلطة كمؤسسة سياسية لإخضاع الشعوب، وفي سبيل ذلك أشعلت الحروب الأهلية وبدلا من ان تصبح السلطة حكما وفصلا بين نزاعات الكيانات القبلية والاجتماعية أصبحت السلطة هي من يذكي هذه النزاعات ويدعم أطرافًا ضد أخرى حتى تضمن النخبة المركزية انشغال هذه الكيانات بنزاعاتها حول الأراضي او الموارد الطبيعية ويستقر لها هي الحكم الذي اصبح تشريفًا ومرتعا لكل عاطل عن الموهبة.
– نعم هناك أزمة اقتصادية متوارثة فليس صحيحًا انه كان لدينا اقتصاد جيد في يوم من الأيام لان الاقتصاد هو عملية تمويل المشروع السياسي الوطني ونحن لم يحدث ان جلسنا وتوافقنا على مشروع سياسي وطني أبداً والمرات القليلة التي وجدت فيها القوى السياسية نفسها مضطرة للتفاهم والتوافق كانت لحظات طارئة في تاريخها سرعان ما ترميها وراء ظهرها في اول سانحة وإذا شئتم راجعوا تاريخ ائتلافاتنا السياسية على محدوديتها وتاريخ عملنا الجبهوي حتى في فترات المعارضة. بل ان الوثائق والأدبيات الجيدة نسبيًا ونظريًا في تاريخنا السياسي سرعان ما يتم إخفاؤها وإنكارها والتملص منها كأنها كانت مجرد جلسات سمر.
– هناك أزمة اقتصادية طاحنة لان النخب المركزية المتعاقبة أكلت موارد البلاد الطبيعية بدلًا من استثمارها في بناء وتأسيس بنى تحتية لاقتصاد وطني، فلم يمتد خط سكة حديد بين كوستي وملكال حتى انفصال الجنوب والخط النهري ظل موسميًا وخط السكة حديد الذي كان يربط بين دارفور ووسط وشمال السودان ظل واقفا في نيالا لا يتعداها وطريق الأسفلت الوحيد الذي امتد غربًا من نيالا ظل لعقود طويلة لا يتجاوز زالنجي ولا تتم صيانته، ولولا ان بورتسودان هي منفذ الصادرات التي تدر على نخب الخرطوم العائدات لما وصلها خط السكة حديد او الطريق البري.
– تقدر أفضل الإحصائيات طول الطرق البرية المرصوفة في السودان ب ٢٣ الف كيلومتر بينما لم تتجاوز السكة حديد في أفضل عصورها ٥ الاف كيلومتر. أما الطاقة الكهربائية في السودان فلم تتجاوز ٣٣٤٥ قيقاواط فقط وكانت وزارة الكهرباء والموارد المائية في عهد الوزير معتز موسى قد وضعت سياسة لزيادة هذا الإنتاج الى ٤ الاف قيقاواط بحلول العام ٢٠٢٢.
– ورغم الطفرة النوعية الهائلة التي شهدها قطاع الاتصالات في عهد حكومة الانقاذ الا ان تخلف موارد الطاقة الأخرى والبنى التحتية للاقتصاد ساهم بدرجة كبيرة في عدم استفادة الاقتصاد من هذه الطفرة بالمستوى المطلوب.
– وبسبب القصور الكبير في تاسيس البنى التحتية للاقتصاد لم تتطور الصناعات المرتبطة بالإنتاج الزراعي او الحيواني او تنمية وتطوير الموارد الطبيعية واعتمدت الحكومات المتعاقبة بالكامل على تصدير المنتجات كمواد خام مما اضاع على البلاد ثروات هائلة كان يمكن ان تعود عليها بتصدير منتجات مصنعة مضاعفة القيمة. فالثروة الحيوانية التي تصدر حية بأسعار زهيدة تفقد البلاد قيمة جلودها وشحومها وبقية الصناعات الصغيرة التي كان يمكن ان تنشا حول صناعة اللحوم من تعليب وتغليف وغيرها. والمنتجات الزراعية التي تصدر او تهرب خاما تفقد البلاد بسبب ذلك ثروات كبيرة هذا عوضا عن فقدانها فرصا للتدريب والتأهيل والتشغيل لملايين من سكان البلاد الذين اضطروا للهجرة للمنافي والعمل في وظائف هامشية لا تضيف اليهم اي خبرات او تكسبهم مهارات.
– ان ما يقدمه السياسيون من اعذار وتفسيرات للازمة الاقتصادية مصممة كدعاية سياسية يعد من اكبر أسباب استمرارها واستفحالها حكومة بعد أخرى وجيلا بعد اخر من السياسيين، فليس صحيحًا ان أسباب الأزمة تعود الى الحاكم الفلاني او افكار التيار الفلاني وان ساهمت هذه العوامل مساهمة محدودة في استفحال الأزمة، إنما الصحيح ان اجماع السياسيين على ان السلطة هي المؤسسة المطلقة للسيطرة على الشعب هو الأصل الذي تتفرع منه الحكومات العسكرية او الأفكار الاقتصادية البائرة الحكومات المتعاقبة.
– لقد شاهدنا في بداية الانقاذ حدثًا فريدًا في بناء وتشييد طريق الانقاذ الغربي حينما التزمت السلطة بتوفير ٦٠٪ من تمويل الطريق إذا التزمت ولايات غرب السودان بتوفير ٤٠٪ فشاهدنا نموذج اللجنة الأهلية التي استطاعت إقناع الشعب في تلك الولايات بالتنازل تماما عن نصيبهم من السكر القومي الذي توزعه الحكومة على الولايات ثم استثمار عائدات هذا السكر لصالح المشروع وعايشنا كيف ان السلطة المركزية التي تمثل النخب المركزية لم تكتفي بالنكوص عن التزامها في الاتفاق أعلاه بل اعتدت على ما وفرته اللجنة الأهلية لطريق الانقاذ الغربي من أموال ، ورغم ان البعض يستخدم الحدث في إطار التوظيف السياسي العاجل ولكنه يكشف عن عقلية النخب المركزية ونظرتها لاهمية طريق كهذا .
– نعم هناك أزمة اقتصادية طاحنة جدا ويزيد من حدتها غياب الامل فالتيارات التي تصدت لقيادة المرحلة الانتقالية تعتمد بالكامل على كذبة تحميل الانقاذ منفردة وزر الأزمة الاقتصادية كأن الانقاذ حكمت منذ الاستقلال او كأنها حكمت خلال ال ٣٠ عام منفردة كما يدعون. وأقصى ما تسمعه من رييس وزراء حكومة الفترة الانتقالية هو ( الشعب احتمل ٣٠ عامًا بامكانه الصبر قليلا) !! والحقيقة ان الشعب لم يصبر على الانقاذ ٣٠ عاما كما يدعون بل تفاعل معها ايجابا حينما طرحت له مشروعها السياسي الطموح وشاهدها تقدم التضحيات الجسام لاستخراج البترول وتضع الأسس لتقسيم السلطة والثروة، فلما ارتدت عن ذلك انصرف عنها ونازعها الحكم وانتزع منها حقوقه مستخدمًا مؤسساته الاجتماعية وكياناته القبلية ومنظومة أعرافه ووسائله المجربة في النضال وبعضه حمل ضدها السلاح وأجبرها على الاعتراف بسلاحه والصحيح ان السيد حمدوك مجرد ( care taker) فعليه ان يكف عن التحدث والتصرف بلسان سياسي وإلا يخفض سقف طموحات الشعب فالشعب مستعد ليس للصبر قليلا بل للتضحية كثيرا بشرط ان يساهم منذ البداية في رسم مشروعه السياسي الوطني ثم يضع له الخطط الاقتصادية التي تموله فهذا شعب ( الفقراء انقسموا النبقة ) و ( يبدوا الغير على ذاتهم يقسموا اللقمة بيناتهم ويدوا الزاد حتى ان كان مصيرهم جوع)!
– لا اقتصاد بدون مشروع سياسي والسيد حمدوك لا يملك تفويضا لإنتاج وتقديم مشروع سياسي فعليه إما ان يتيح توافقا يغطي عجز التفويض الانتخابي موقتًا او يعجل بتسليم السلطة لمن يفوضه الشعب انتخابا ويقبل برنامجه السياسي حتى يستطيع مسألته عن مشروعه الاقتصادي .
صديق محمد عثمان