انقلاب إثيوبي بملف سد النهضة: اجتماع واشنطن بلا أفق
تسابق الدبلوماسية المصرية الزمن لانتزاع تعهدات واضحة من الولايات المتحدة بالضغط على إثيوبيا وحلحلة الموقف المتعثر للمفاوضات الفنية بشأن سد النهضة، قبل الاجتماع المقرر في واشنطن الاثنين المقبل، بين وزراء الخارجية والمياه في كل من مصر والسودان وإثيوبيا بحضور وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، والذي أصبح بلا أفق أو أجندة واضحة بعد فشل اجتماع أديس أبابا الخميس الماضي. وكانت الجولة الرابعة من مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، التي عُقدت في أديس أبابا، بين وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا، على مدار يومين، انتهت بفشل جديد. وقالت مصادر في وزارة الخارجية المصرية وأخرى في وزارة الري إن التعنت الإثيوبي الذي أفشل جولة التفاوض الرابعة، أول من أمس الخميس في أديس أبابا، “لم يكن متوقعاً”، إذ كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تأمل بتسوية جميع المشاكل العالقة، ليقتصر برنامج الاجتماع في واشنطن على إعلان التوصل إلى اتفاق، برعاية أميركية، فضلاً عن تلقي مصر إشارات مختلفة من دول أخرى، كالصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، بترجيح إبداء إثيوبيا مرونة في الجولة الرابعة، في إطار حرص هذه الدول على تأمين مصالحها في مصر وإثيوبيا، وهي الدول التي كانت القاهرة تطالبها بإلحاح بالضغط على شركاتها ومستثمريها العاملين بمشاريع إنشاء السد ومكوناته، وكذلك المتعاقدين مع الحكومة الإثيوبية لتدشين مشاريع تستفيد من إنتاج كهرباء السد مستقبلاً.
ذكرت الخارجية الإثيوبية أن أديس أبابا اقترحت خطة لملء خزان السد تعتمد على مراحل
وأضافت المصادر أن وزير الري الإثيوبي سيلشي بيكلي فاجأ نظيره المصري محمد عبد العاطي بحسابات جديدة، أصرت القاهرة على أنها خاطئة. وأوضحت أن بيكلي ادعى أن المقترح المصري، الذي تم تطويره خلال ثلاثة اجتماعات فنية واجتماع واشنطن الشهر الماضي، سيؤدي إلى تعطيل إنجاز الملء الأول لسد النهضة نحو 4 أمثال الوقت المحدد له، ذلك إذا سمحت إثيوبيا بتدفق 40 مليار متر مكعب أثناء فترات الجفاف، وبالتالي اتخاذ التدابير الاستثنائية بوقف الملء إذا انخفض المنسوب عن حد التدفق هذا. وأوضحت المصادر أن الحسابات الإثيوبية فضلاً عن افتقارها لأبسط قواعد المنطق، تمثل انقلاباً على التطور الذي طرأ في الاجتماعات الفنية الثلاثة السابقة، إذ كانت أديس أبابا تعرض تمرير 35 مليار متر مكعب في فترات الجفاف، وإذا تم تطبيق ادعاءات بيكلي فإن الملء لن يتم إلا بعد 10 سنوات، وهو أمر ليس صحيحاً أيضاً. وأكدت المصادر أن هناك أكذوبة إثيوبية أخرى ترددت في الاجتماع، وسيتم عرضها في واشنطن، وهي أن المقترح المصري سيحرم أديس أبابا من توليد الكهرباء لسنوات عديدة، رغم أن كل أنظمة التوليد الخاصة بسد النهضة تم إنجازها بالفعل ولا تتطلب الملء الكامل للسد.
وبحسب بيان لوزارة الخارجية الإثيوبية، فإن مصر تقدمت بتصور يقترح ملء خزان السد في فترة تتراوح بين 12 إلى 21 سنة، مشددة على أن هذا “أمر غير مقبول”. وفي مؤتمر صحافي عقب الاجتماع الذي استضافته أديس أبابا، قال بيكلي “سنبدأ ملء السد بحلول يوليو/تموز المقبل”، مضيفاً أن مصر جاءت إلى المحادثات من دون نية التوصل لاتفاق. وذكر البيان الصادر عن الخارجية الإثيوبية، أن أديس أبابا اقترحت خطة لملء خزان السد تعتمد على مراحل، وتستغرق من 4 إلى 7 سنوات اعتماداً على تدفق الفيضان، مشيرة إلى أن مقترحها يراعي التخفيف في حالات الجفاف أو الجفاف المطول أثناء ملء وتشغيل السد، مؤكدة، في الوقت ذاته، أن مقترحها يراعي عدم إلحاق ضرر جسيم بدولتي المصب، في إشارة إلى مصر والسودان. وأوضحت الخارجية الإثيوبية، في بيانها، أن “إصرار وفد مصر على اقتراحه بأكمله منع التوصل إلى اتفاق”، مشيرة إلى أن الاقتراح المصري يفترض تدفقاً طبيعياً للمياه من النيل الأزرق، وهذا بمثابة حرمان لإثيوبيا ليس فقط من مستقبلها ولكن أيضاً من حقوقها في مياه النيل. وأضافت أن “مبدأ التدفق الطبيعي الذي تقترحه مصر غير متعاون، ويحرم إثيوبيا من حقها العادل والسيادي في استخدام مواردها الطبيعية”، مؤكدة أن هذا الموقف غير المرن يتعارض مع مبادئ الاستخدام المنصف ويفتقر إلى روح التعاون. وذكرت أن “إثيوبيا ترفض أي محاولة مباشرة، أو غير مباشرة، لجعلها تقبل معاهدات استعمارية جائرة، وغير منصفة، أو غيرها من المعاهدات التي ليست طرفاً فيها”.
وتعليقاً على ما حصل، أكد مصدر مصري مسؤول لـ”العربي الجديد”، أن النهج الإثيوبي الحالي لا ينبئ بأي حال من الأحوال بحل في المدى القريب، عبر آليات التفاوض الطبيعية، مشيراً إلى أن استمرار أمد المفاوضات بهذه الطريقة يجرد مصر من كافة أوراق الضغط لديها، ومع الوقت سيدفع مصر إلى القبول بالأمر الواقع، وهو ما تراهن عليه أديس أبابا. وكشف أن المفاوضات شهدت سجالاً واسعاً حول رفض إثيوبيا الاعتراف بأي أضرار قد تتعرض لها مصر نتيجة عملية ملء خزان السد، وتأكيدها خلال المباحثات أن دورها لا يتضمن منع أي أضرار للقاهرة، وأن حقها هو الاستفادة مما تنتجه الهضبة الإثيوبية في مياه النيل. وأوضح أن “الجانب الإثيوبي أكد أن هناك أضرار يتعرض لها الجميع، وما يمكن أن تساهم فيه أثيوبيا هو تخفيف حدة الأضرار الجسيمة فقط”، مؤكداً أن “الوزير الإثيوبي والوفد الفني المرافق له، خلال جولة المفاوضات الأخيرة، أصروا على توثيق مصطلح الأضرار الجسيمة، وليس الأضرار فقط”. ونفى المصدر “التصريحات التي أدلى بها وزير الري المصري بأن هناك توافقاً بشأن بنود عدة”، قائلاً “الأوضاع تسير من سيئ إلى أسوأ، وحتى الآن التدخل الأميركي غير جاد، وإثيوبيا لم تغير من أساليبها، وما زالت تتبنى نهج إطالة أمد التفاوض حتى تتمكن من البدء في عملية الملء”.
أكد مصدر مصري أن النهج الإثيوبي الحالي لا ينبئ بأي حال من الأحوال بحل في المدى القريب
وسبق أن أسقطت مصر تماماً تمسكها بوصول 49 مليار متر مكعب من المياه إلى بحيرة السد العالي، بصيغة واضحة غير ملتبسة، ما أعطى المفاوضات الشهر الماضي دفعة حقيقية، ودفعت وزير الري الإثيوبي إلى إبداء مرونة غير مسبوقة، تتمثل في الإعلان عن الموعد الفعلي لبدء تخزين المياه في بحيرة السد الرئيسية. وأكدت المصادر في وزارة الخارجية والري أن الطريقة التي تحدث بها بيكلي في الاجتماع الأخير بدت وكأنها “إعلان حرب مياه على مصر”، إذ انتقد المقترح المصري الذي يبني كل القياسات على أساس فيضان النيل الأزرق، لنفس السبب الذي تتمسك به مصر، وهو أنه سيفتح الباب لاستفادة مصر من بقايا الفيضان، وذلك بعد استفادة إثيوبيا من المياه المطلوبة لملء الخزان الرئيسي للسد، مع الابتعاد تماماً عن فكرة “المدة القطعية لزمن الملء الأول للخزان”، ما يعني أن بيكلي لا يرغب في تحقيق مصر أي استفادة، سواء في فترات الرخاء أو الجفاف. وكشفت المصادر أن بيكلي اعترض عندما تحدث عبد العاطي عن ضرورة “تدخل رئاسي في حل الأزمة” رداً على المماطلة الإثيوبية، بمعنى ضرورة اتفاق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد على مسار تفاوضي جديد لحسم الأزمة. وقال بيكلي إن “إثيوبيا تتمسك بالتفاوض الفني فقط، والتدخل السياسي لن يجدي في هذه الحالة”.
وفي ظل ظروف الأمر الواقع والفشل السياسي وإلغاء احتمال استخدام القوة وتمسك السيسي بصحة توقيعه على اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 والذي تعتبره أديس أبابا اعترافاً مصرياً نهائياً بالسد وسيادتها وحدها عليه بعيداً عن أحلام الإدارة المشتركة، فإن الموقف المصري الجديد يرنو إلى الخروج من المفاوضات بأقل الخسائر الممكنة، بإعادة النظر في بعض الثوابت السابقة. ويرتبط الموقف المصري بموضوعين أساسيين: الأول هو أن يتم الاتفاق على آلية ترشيد الحجز في فترات الجفاف فقط وليس في فترات الفيضان والرخاء، حيث كانت مصر تطالب بأن يتم تحديد كميات المياه المحجوزة والكميات المسموح بمرورها من السد، عاماً بعام، من خلال آلية رقمية وكمية يتم تطبيقها استناداً إلى حجم الفيضان السنوي للنيل الأزرق. والأمر الثاني يتعلق بتحديد سلطة اتخاذ القرار وتطبيقه، حيث تم الاتفاق على أن تكون إثيوبيا هي الدولة المنوط بها تنفيذ هذه الآلية، مع استثناء هو إعطاء الفرصة لكل من مصر والسودان للتدخل في سنوات الجفاف لإدخال تعديلات على هذه الآلية بناء على اتفاق مشترك.
ومن الضروري التوصل إلى اتفاق يحدد قواعد ملء وتشغيل السد بحلول منتصف الشهر الحالي، وفي حالة الفشل هناك اتفاق على تطبيق المادة 10 من إعلان المبادئ، والتي تنص على أن يتم الاتفاق بين الدول الثلاث على تسوية النزاعات الناشئة عن خلاف في تفسير أو تنفيذ الاتفاقية ودياً، من خلال استدعاء طرف رابع للتوفيق أو الوساطة، أو إحالة المسألة للنظر فيها من قبل رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات.
العربي الجديد