رأي ومقالات

الصادق الرزيقي: وغنّى المغني.. “يلا الجنينة.. أردمتا”!!

لم يبلغ الناس ترفاً مثل الترف الذي عاشه أهل مدينة الجنينة أقصى غرب السودان في السنوات الخمسين والستين والسبعين من القرن الماضي، كأنهم ملوك قبضوا الدنيا من تلابيبها وعاشوها كما يعيشها الأباطرة!!

كانوا يستحمون بالكالونيا وأفخر أنواع العطور الباريسية القادمة عبر الحدود من تشاد والكاميرون ونيجيريا، وكأن الشمس كانت تهجع في مغربها عند أقدامهم، والبدر المنير يسطع في سماء المدينة معربداً طليقاً يرتوي من خمر السهر، تلامس ذؤابات أشجار المانجو والحراز خيوط نوره الفضي بين فجاج الظلام.

كانت المدينة في تلك الأيام، تتبع للحكومة المركزية من عهد الإنجليز، ولم تكن تخضع لسلطة مديرية دارفور، بل كانت معتمدية تشرف عليها الخرطوم مباشرة. غرق أهلها في رغد العيش، وقصدها التجار والموظفون من كل مكان، وانتعشت كأنما نفخ فيها روح من البهاء والجمال لم يتأت لمدينة غيرها، مًضمخة بدلالها ورونقها، يأتلق الصباح في جيدها كقرط من الياقوت، وتتدلى فصوص الليل ونجيماته على صدرها، كأميرة تدلت من سقف الأساطير القديمة والأزمنة الذائبة في لجين التاريخ.

“ب”

دائماً تذكرنا بفلذة كبدها، الشاعر الكبير محمد الفيتوري، الذي ولد فيها عام 1930م، فكأنه كان يناجي لحظات مولده ولثغة الجمال في شعره:

رُبَّمَا لمْ تَزَلْ تلكم الأرض

تسكن صورتها الفلكية

لكن شيئاً على سطحها قدْ تكسَّر

رُبَّمَا ظل بستانُ صيفك

أبْيضَ في العواصف لكنَّ بْرقَ العواصف

خلف سياجكَ أحْمر

رُبَّمَا كانَ طقسُك، ناراً مُجوسِيَّةً

في شتاءِ النعاس الذي لا يُفَسَّرْ

رُبَّما كُنْتَ أَصغر ممَّا رَأَتْ فيكَ تلك النبواءتُ

أَو كنتَ أكْبَرْ

غير أنك تجهل أَنَّك شَاهِدُ عَصْرٍ عتيقْ

وأن نَيازِكَ مِنْ بشرٍ تتحدَّى السماء

وأن مَدَارَ النجوم تغير!!

هَا قَدْ انطفأتْ شرفاتُ السِّنين

المشِعَّةُ بالسِّحْرِ واللُّؤْلؤ الأَزليِّ

وَأَسْدَلَ قصْرُ الملائكة المنشِدينَ سَتائِرِهُ

وكأنَّ يَداً ضَخْمَةً نسجت أُفقاً مِنْ شرايينها

في الفضَاءِ السَّدِيمىّ

هَا قَدْ تداخَلَتْ اللُّغَةُ الْمُستحِيلةُ

في جَدَل الشمْسِ وَالظُّلمَات

كأنَّ أصابعَ مِنْ ذَهبٍ تَتَلَمَّسُ

عبر ثقوب التضاريس إيقَاعَهَا

تَلِْكُمْ الكائِنَاتُ التي تتضوَّعُ في صَمِتَها

لم تُغَادِرُ بَكاراتَها في الصَّبَاح

وَلَمْ تشتعل كرة الثَّلْجُ بَعْد!!

فَأَيَّةُ مُعْجِزَةٍ في يَدَيْك

هكذا أو لربما كانت هي الجنينة.. عاصمة دار اندوكا!!

“ت”

من رحم فكرة باهرة خطرت ذات يوم للسطان بحر الدين سلطان دار مساليت عقب استشهاد أخيه السلطان تاج الدين الذي قاتل الفرنسيين حتى استشهد في معركة دروتي 1910م، وكان السلطان في عاصمته «دُرجيل» شمال شرق الجنينة الحالية، وُلدت هذه المدينة عام 1914م ، وكانت روضة غناء عند منحى وادي “كجا” بسقت بأشجارها وشاهق فروعها وجبلها واخضرار حواف الوادي المتمهّل في الخريف، قرّر السلطان نقل العاصمة إليها وإنشاء المدينة، بنى قصره الشامخ فوق الجبل العالي الذي يطل على سهل منبسط يشقه وادي كجا، وأذن في الناس فتوافدوا إليه زرافات ووحداناً ومن كل فج عميق… فنشأت المدينة وترعرعت وشبّت بسرعة، وتوافد وتقاطر إليها الناس من كل مكان.

كان “زقزقي” أحد أعضاء محكمة السلطان عبد الرحمن بحر الدين، الذي تسلم زعامة قبيلة المساليت في خمسينيات القرن الماضي، يقول:

“بلدنا دي زي حفرة عسل كل زول لمتخ فوقو..” ..!

كانت بالفعل المدينة مثل منهل العسل، جاءها الشوام والأرناؤوط والأغاريق والأقباط، ووفد خلق كثير من سلطنة وداي، فضلاً عن القادمين من كل بقاع السودان، وسرعان ما توسعت المدينة التي تشبه الحديقة الوارفة، يحفها وادي كجا من اتجاه الشرق ومن الجنوب جبل السلطان، وكانت امتداداتها في الشمال والغرب نقطة الجمارك ومصلحة البيطري… وعند مدخلها الشمالي الشرقي نشأت أردمتا.. والكوبري على الوادي، وتفتحت كزهرات الرياض الأحياء الحديثة مطلع الأربعينيات والخمسينيات “حي السلطان، حي الأمير، حلة الجلابة، حي أولاد الريف، حي برنو، حي فلاتة، حي هوسا، حي الجبل، حي السلطان.. أردمتا “.. وظهرت المدارس والمصالح الحكومية وتوسع السوق وشيدت المدارس.. وخرجت للوجود في زينتها مدينة الجنينة.

“ث”

كان السلطان الراحل عبد الرحمن بحر الدين، عالماً واسعاً .. من الحكمة والدهاء والسياسة، رجل مربوع القامة، ذو ملامح واضحة عينان باردتان لامعتان، شفتان غليظتان.. ترتخي شفته السفلى عندما يتدلى كدوس عتيق ينفث دخانه ببطء وتمهل، أنيق الثياب وفاخرها، في أخريات أيامه كان يضع نظارة شمسية على وجهه الدائري الضخم، درس السلطان في كلية فيكتوريا وزامل الإمام الشهيد الهادي عبد الرحمن المهدي.. تشرب بثقافة حضرية باذخة الرفعة تتجلى في ملبسه وفاخر سيجاره وتبغه وأيقونات ديوانه الفسيح في منزله بحي السلطان أو في قصره في قمة الجبل، أمام طاولته في المحكمة أو المنزل يلمح الرائي علب سجائر كنت الأمريكية التي يدخنها، وعلى الأرفف الهدايا السلطانية التي كانت تصله من كل مكان، ولوحات نادرة ورؤوس الحيوانات المحنطة وجلود النمور والجاموس الأيائل والأسود.

والسلطان كان صاحب عقل جبار ودهاء في إدارة المنطقة، فله محكمة شهيرة جعل من كل ممثلي القبائل المجموعات السكانية في دار أندوكا أعضاءً فيها، وله سجن يحبس فيه مخالفي القانون، وكان عادلاً وذا نباهة وفطنة يعرف كيف يدير ويسوس الرعية.. وتجده في المساء في مجلسه في ديوانه أو أمام بيته على مسطبة عالية جلس عليها ورصت فيها الكراسي العتيقة رصاً وصفت صفاً!!

“ج”

كانت المدينة يومئذٍ تضم التجار والموظفين والمعلمين، ففي سوقها الكبير في زاهي الأيام وبهيجها، تجد من التجار: بابكر التني من آل التني وهو سر تجار المدينة، وصالح فضل المولى وإبراهيم وحمد ومحمد شمو حيث ولد وترعرع ابنهم البروفيسور علي محمد شمو الخبير الإعلامي الكبير، وعطرون صباحي التاجر المعروف من أبناء العيلفون، ومن الشوام والإغريق إلياس بلدي وحبيب شاشاتي وكوستاكي وبيترو، ثم الشريف كرار، وعابدين محمد عثمان والد السفير الدكتور حسن عابدين، وأولاد بيلو عتيق «عثمان وعمر وبوبا ومحمد»، وبابكر الضباح، وضو البيت صالح، ومحمد حاج علي ومكي إدريس، وعبد القادر عباس جاد الرب، والفكي الطيب علي التني، وأحمد علي الدعاك، وعبده صالح، وأمين عبد الوهاب، وإسحاق الشايقي، وآدم وتبن محمد نور، ومحمد أحمد التعايشي، وأحمد هاشم، وأسرة أبو شامة، وإبراهيم مكي الشفيع صاحب المكتبة المشهورة التي كانت توزع فيها المجلات العربية والصحف والكتب منذ الخمسينيات من القرن الماضي.

وجذبت المدينة إليها الموظفين في المرافق الحكومية المختلفة وخاصة المدارس مثل مدرسة الجنينة الأميرية الوسطى التي درس وتخرج فيها المشاهير من أبناء السودان مثل البروفيسور سليمان صالح فضيل النطاسي الشهير، والبروفيسور جماع عمر فائق، واللواء التيجاني آدم الطاهر ود. علي حسن تاج الدين وإخوانه طه وأحمد، والإداري المرحوم حسين أبكر صالح وشقيقه المرحوم الأستاذ صالح أبكر صالح، وإبراهيم يحيى الوالي الأسبق، ومولانا علي يحيى رئيس مجلس الولايات الأسبق، والطيار يوسف أحمد الأمين، والشهيد محمد أبكر صبيرة، والمرحوم أحمد دقرشم، والمرحوم المهندس محمد علي فؤاد، ود. عبد السميع سلطان، والشهيد العميد إبراهيم قرض الذي استشهد في حادثة فندق الأكروبول في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، والعديد من رموز وأبناء الجنينة.

ولعل أبرز من درسوا ودرّسوا في هذه المدرسة المعلم الشهير عثمان تنقو، الذي استلهم منه الفنان شرحبيل أحمد شخصية عمك تنقو في مجلة الصبيان أول مجلة أطفال في العالم العربي.

“ح”

كانت الجنينة تعج بحركة التجارة والإدارة والسياسة والتلاقحات الاجتماعية، في تلك السنوات، كان منفذها للخرطوم وسائر بلاد السودان، إما المطار الترابي القديم، أو السيارات والشاحنات واللواري التجارية القادمة من أم درمان ومدن دارفور المختلفة، حيث يربطها طريق غير معبد بالفاشر عن طريق كبكابية وسرف عمرة وطريق آخر من نيالا مروراً بزالنجي، ومن أشهر سائقي اللواري التجارية من ماركة الفارقو في الستينيات «علي شقلبان» و «التوم ود الميرم» و«عباس جزيرة» وهؤلاء كانوا يعبرون بعرباتهم الفيافي من أم درمان حتى الجنينة في رحلة لأيام وليالٍ، ومن أصحاب اللواري التجارية من دارفور عربة بدفورد لجماع آدم والد مدير الحج والعمرة الأسبق والوالي الأستاذ آدم جماع والي كسلا السابق، وعربة الدومة حسين والطيب سيكس، ومن نيالا عربات ولواري إبراهيم برتاوي وإبراهيم الشريف آدم وود بخيت سلمان.

وكانت أشهر صناعة للمراكيب في السودان تزدهر في الجنينة، ومن أشهر الإسكافية “عمك بركة، أب قمبور، حاج لون، وأحمداي”.

وكانت أول مدرسة ثانوية للبنات في دارفور قد أنشئت في الجنينة، ونقلت لفترة قصيرة نهاية الستينيات إلى الفاشر بسبب حادث حركة مؤلم حيث أدى انقلاب لوري سفري لمقتل وجرح عدد من الطالبات قادمات عن طريق نيالا إلى المدرسة في فصل الخريف، ونقلت على إثر ذلك المدرسة الثانوية للفاشر، ومن أبرز بنات الجنينة في تلك الفترة زينت صالح فضل المولى التي درست التمريض وتخصصت فيه في بريطانيا وكانت رائدة في هذا المجال، والأستاذة عائشة صبير.

وأحياء المدينة كانت مقسمة حسب القبائل في كثير منها، لكن الترابط والتعاون والتعارف كان سمة مجتمع المدينة ولم يتغير، وكانت علاقة السلطان عبد الرحمن بحر الدين بجميع القبائل جيدة ووطيدة، ومن عجب أن السلطان كان له جهاز معلومات خاص يضاهي أي جهاز أمني أو استخباري في سرعة جمع المعلومات عن الدخلاء والوافدين والمجرمين وعابري السبيل.. وكانت قبائل أولاد الريف والأرينغا وأولاد راشد والقمر والفلاتة والهوسا والبرقو والشطية والماهرية وأولاد زيد والهوارة والبرنو وغيرهم أقرب للسلطان وأكثر قرباً منه، ولم يكن هناك أدنى إحساس بأن سلطان دار مساليت كان شيئاً مختلفاً ونائياً عنهم.

“خ”

ومن المشاهد التي لا تنسى في مدينة الجنينة في تلك الحقب، منزل صالح فضل المولى وهو من كبار التجار، فقد كان مقصد المسافرين وعابري السبيل ومن تقطعت بهم الأسباب، مضيفة لكل ضيف.. في أوقات الوجبات تخرج أعداد كبيرة من صواني الفطور والعشاء إلى مكان الضيوف الذي توزعت فيه السراير والعناقريب بلا عدد.. ويجد كل صاحب حاجة حاجته.. وكان صالح فضل المولى متعهداً لإطعام المبعدين من اللاجئين التشاديين حتى يصلوا بلدهم. وتزوج وزير الداخلية التشادي في عهد فرانسوا تمبلباي ابنة صالح فضل المولى وفاءً لتك الآصرة.

والمنزل الآخر هو منزل آل شمو.. وقد كان مضيفة ضخمة وباب الدار لا يغلق طوال العام.. وتتوزع فيه أسرة المقيمين لأشهر والعابرين والمسافرين والضيوف، وحكى البروف علي شمو ذات مرة أنه لم ير باب منزلهم في الجنينة يغلق أبداً!!

يا لها من أيام..!