مقالات متنوعة
الحركة الشعبية … وفرصة صناعة التاريخ أو الخسران المبين
ولا شكّ أنّ من المنجزات العظيمة التي يزدهي بها كلّ سوداني غير مكابر اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية التي أخمدت ناراً ظلّت تأكل أبناء هذا الشعب المتسامح لأكثر من خمسين عاماً، فتعالت الزغاريد، وهتف الأحرار، وتدافع الوطنيون الغيورون للقاء الراحل جون قرنق في ذلك اليوم المشهود، وكان ذلك اليوم مثالاً للتسامح السوداني الذي تجاوز معه أبناء هذا الشعب في شماله وجنوبه كلّ الجراحات والمآسي التي خلفتها تلك الحرب الضروس، ولا أحسب أنّهم تجاوزوا تلك المحن والجراحات واستقبلوا قرنق ذلك الاستقبال إلا لأنّ قرنق أشهر سلاحه لقضية وأخمده لسلام، وكان بمقاييس السياسة رجلاً ذكياً عرف كيف تؤكل الكتف من الدوائر الغربية، عرف كيف يسخّرها لخدمة قضيته، وأفلت منهم يوم نال حقه في طاولات الحوار والسلام الأبيض، ولكن أبى الغرب الغادر إلا أن يلطّخ تلك الصفحات البيض بتمرّد جديد في دار فور؛ ليفسد الفرحة على السودانيين، وتسارعت خطى دار فور وأسرعت بمعدل فاق سرعة الضوء، حتى سارت لفظة دارفور تلاك على ألسنة لا تعرف من العربيّة إلا هذه اللفظة، ودخلت أعتى المنظمات الدوليّة والإقليمية، وبقدر اتساع دائرة القضية اتسع الفتق على الراتق، فحاولت النخبة الحاكمة في مرات عديدة الجلوس مع المتمردين، وكان آخر ذلك حوار الدوحة الذي أسفر بما يسمى النوايا الحسنة، ولكن كانت اسماً على غير مسمى، وذلك حديث يطول شرحه.
واليوم وقد حمي الوغى وبلغ السيل الزبى في بلاد صارت فيها الحركة الشعبية شريكاً أصيلاً في الحكم بل لها القدح المعلّى في السلطة، حيث تشارك الشماليين في حكم الشمال، وتتفرّد بحكم الجنوب، ولها نصيب وافر من الثروة، حتى هناك من يرى أنّ ذلك أكبر من حقّها، أفليست هذه كلّها مصالح تحتّم على الحركة الشعبية الذود عن النظام الحاكم بكل ما تستطيع من علاقات داخلية وخارجية، فالسياسة فنّ، أقلّ قيمه مراعاة المصلحة، وأرفعها الوطنية، فإن لم يكن واجب الوطن يحرّك الحركة الشعبية لحماية وطن ” الشعبية” التي تسمت بها، أفلا تحركها مصالحها التي تبدو الآن في مهبّ ريح أوكامبو التي أراها تحرّك اتفاقية نيفاشا وأبوجا خاصة يمنة ويسرة. وعلى الرغم من أنّ الشريك الرئيس قد أبدى التزامه بسائر تلك الاتفاقيات، ولكن أيّ عاقل يضمن التزام شريك تخاذل عنه الشركاء، بل إنّهم يبدون العداوة ببياناتهم الضبابية وتصريحاتهم الهزيلة حول المحكمة الجنائية أكثر ممّا يبدون من حرص على حلّ الأزمة. إنّي لأجزم ويجزم معي كلّ من يفهم أبجديات السياسة أنّ هذه الأوضاع إذا استمرت في ذات الاتجاه وبهذه السرعة ستُرجع البلاد إلى المربع الأول الذي انطلقت منه الإنقاذ، ولا أحد ينسى كيف كانت الحال آنذاك، وبعدئذٍ ستدقّ الحرب طبولها، ويخسر الشركاء الموقّعون كلّ كرسيّ ودرهم؛ لأنّ الذي لا يختلف فيه اثنان أنّ الحزب الحاكم الذي رفض مجرد الحديث عن تسليم أحمد هارون وكوشيب، لا يمكن أن يقبل شريكاً يقول بعدالة المحكمة الجنائية، وينادي بالتعاون معها لتوقيف رئيسه في وضح النهار، وما خفي أعظم.
لقد ورث القائد سلفاكير الحركة الشعبية من الراحل جون قرنق حركة قتالية سياسية قوية، ولكنّها ظلت تتضاءل بالصراعات الداخلية التي أخذت تبدو على السطح من حين إلى آخر، وبالمواقف الخلافيّة التي تفتعلها مع الشريك “المؤتمر الوطني” من وقت إلى آخر، وبعدولها في كثير من المواقف ـ وآخرها موقف المحكمة الجنائية اليوم ـ عن الشعارات القوميّة والوطنية التي رفعتها، تلكم الشعارات التي جعلت كثيراً من أبناء الشمال ينخرطون في الحركة الشعبية فضلاً عن أبناء الجنوب. أليس من أبجديات السياسة أن تحاول الحركة الشعبية السبق السياسيّ بالسعي إلى تجاوز هذه الأزمة؟ وإذا أرادت ذلك تحقق لها بأمرين جليين لا ثالث لهما؛ الأول صياغة الخطاب السياسيّ عن ادعاءات أوكامبو صياغة رفض وإدانة واضحة؛ وليكن ليس ذلك من أجل البشير، ولكنّما من أجل وجدان هذا الشعب وضميره، ذلك الشعب الذي لا يرى البشير إلا رمزاً لسيادة الوطن وعزّته. كما أنّ بيد الحركة الشعبية آليات ليست موجودة عند أحد غيرها، وهي أنّها تستطيع إبطال فرية أوكامبو لدى الدول الفاعلة بمجلس الأمن، وذلك بتوظيف الدبلوماسيّة والصداقات الخارجيّة، كما أنّ الحركة الشعبية هي التي أرضعت حركات دارفور لبان الغرب، إذن فهي قادرة ـ أو يجب أن تكون كذلك ـ على فطامها عندما يكون الفطام خيراً للحركة وللوطن. وإنّي لأجزم أنّ قرنق ما كان يريد من تلك الحركات إلا عضداً يعينه على المؤتمر الوطني، ولا يريد بهم عملاء ينفّذون مآرب الدوائر الغربية البغيضة… أما آن الأوان لسلفاكير أن يحقّق كاريزما أعظم ممّا حققه قرنق.
ولا شكّ أنّ الحركة الشعبية إذا أرادت أن تسابق إلى برنامج سياسي ناجح وطرح مقنع للانتخابات التي أزف قدومها أن تخرج من هذا النفق المظلم الذي دخلت فيه، ونسيت معه مصالحها؛ لأنّها هي أيضاً مستهدفة مثلما أنّ المؤتمر الوطني مستهدف؛ فمن ثمّ فإنّ المواقف الضبابية والبيانات السياسيّة السالبة التي هي أشبه بصب الزيت على النار لا تزيد الحركة الشعبية إلا بعداً عن” الشعبيّة” التي تنادي بها وتسمت بها. فهي لا تخسر بهذا الموقف في الشمال فحسب، بل حتى في الجنوب؛ فلذا يجب على قادة الصف الثاني من الحركة الشعبية الذين تتعالى أصواتهم تارة فوق صوت سلفاكير أن يعلموا أنّ صناعة قائد قويّ من سلفاكير خير لهم سياسيّاً وشعبيّاً وجنوبياً من قائد تتصارعه جماعة وتسيّره طائفة على غير هدى ورشد.
فأحسب أنّ الحركة الشعبية اليوم لهي فارس الحلبة في زمان أصاب أحزابنا جميعاً كساح أقعدها عن الفاعلية في كلّ قضية سياسيّة، دعك من قضية دار فور، وأحسب أيضاً أنّ الحركة الشعبية أو ينبغي أن تكون كذلك لها صوت مسموع وقول مصدّق لدى هذه الدوائر الغربية، فمن غيرها يمكن أن يكذّب ادعاءات أوكامبو بأنّ البشير بريء ممّا نسب إليه في شأن دار فور براءة الذئب من دم يوسف؛ لأنّها تعرف بخبرتها السابقة والتي مازلت فيها بقية كيف تقنع الغرب بحقائق الأمور. فالسياسيّ الحصيف هو الذي يعرف كيف يسخّر الحدث لمصلحة قضيته دونما يضرّ ذلك بالوطن الذي هو الحسناء التي يريد كلٌّ أن يخطب ودّها، كما أنّ السياسي الذكي هو الذي لا يعرف العداوة المطلقة ولا الصداقة الدائمة، وإنّما لكلٍّ أوان، فعدو اليوم يمكن أن يكون صديق الغد إذا ما التقت معه المصالح، ولكن عجباً كأنّ هذا الدرس لم يكن في دفاتر إخواننا في الحركة الشعبية الذين ظلّوا يعاملون شركاءهم من المؤتمر الوطني دوماً معاملة العدو الذي لا يتقاطعون معه حتى في مصلحة الوطن الواحد.
ما يجب أن يعلمه إخواننا في الحركة الشعبية هو أنّ الحشود الجماهيرية الغفيرة التي خرجت وما زالت تخرج للالتفاف حول البشير في بقاعات السودان المختلفة هم خصم من جماهير الحركة الشعبيّة مثلما هم خصم من جماهير الأحزاب السياسيّة الأخرى، وأحسب أنّ البشير كان مصيباً عندما قال “شكراً لأوكامبو” لأنّ ما يجري الآن بمفاهيم السياسة كسب عظيم للمؤتمر الوطني الذي تخندقت معه أعداؤه قبل أصدقائه، وتحالفوا معه في الرّد على ادعاءات المحكمة الجنائية. وما يجب أن يتذكره أيضاً إخواننا في الحركة الشعبية أنّ الإخوة الجنوبيين ـ الذين هم يمثّلون القاعدة العظمى للحركة ـ هم أكثر الناس مصلحة على أن يبقى السودان آمناً مستقرّاً بعيداً عن الحروب والمعارك؛ لأنّهم ذاقوا مرارات الحرب عقوداً عديدة؛ فما ورثوا إلا الفناء والتشرّد والتخلّف.
وختاماً أهمس في أذن إخواننا في الحركة الشعبية وأذكّرهم ببعض أبناء الشمال الذين انتقدوا اتفاقية نيفاشا ، ومازالوا يرون أنّ في ذلك حيفاً للشمال، فحتماً إنّ موقفكم المتخاذل هذا يجعلهم يشعرون بشيء من القبطة بأنّ الحق الذي ضاع بدأ يعود إلى أصحابه، كما أهمس إليكم بشيء آخر، وهو ألا تكونوا أدوات للآخر لتحقيق مآربه، حتى إن كان الآخر الغرب صديق الأمس، عدوّ اليوم، فهكذا هي السياسة، وإلا فماذا تجني الحركة الشعبية من الانسياق وراء هذه الأباطيل التي تنادي باعتقال البشير، وهل يفوت على براعم رياض الأطفال فضلاً عن الكبار أنّ الحركة الشعبيّة ستكون أكثر الجماعات خسارة بتصاعد الأوضاع ورجوعها إلى المربع الأول؛ مربع الحرب… إذن فالتاريخ يفتح صفحاته للحركة الشعبيّة لتخطّ بالقلم الأحمر لا لاعتقال البشير، لا لادعاءات المحكمة الجنائية، وآلية ذلك خطاب سياسيّ واضح، وتحركات دبلوماسيّة مشهودة للشعب السوداني أجمع، وإنّي لأجزم أنّ ما يمكن أن تفعله الحركة الشعبيّة بوفودها الدبلوماسيّة إلى دول الغرب ومنظماتها عمل لا يمكن أن يحسنه غيرها، حتى الصين التي نعوّل عليها في هذه البلوى، بذلك تستطيع الحركة الشعبية أن تؤكد حقّاً أنّها اسم على مسمى “الشعبية”، وأنّها حزب سياسيّ مدنيّ ذكيّ يقيس الأمور بمقاييس السياسة التي تملي الترفّع عن الأحقاد وتصفية الحسابات التي لا تكسب غير الخسران المبين.
د.عبدالرحمن كرم الدين
المملكة العربية السعودية
Ismael663@hotmail.com