تحقيقات وتقارير

في سبت ” التكتيك” السياسي .. الحرية والتغيير تُباغت ” الإسلاميين” بهدف قاتل

في سبت ” التكتيك” السياسي..
الحرية والتغيير تُباغت ” الإسلاميين” بهدف قاتل

بعد أن انفض حشد “الإسلاميين” وزحفت أقدامهم من شارع القصر صوب منازلهم، تقلهم عرباتهم الفارهة دون أن يصيبهم وابلٌ من الرصاص، أو دون أن تتساقط عليهم عبوات الغاز المُسيل للدموع ، وعادوا من حيث أتوا، أطرافهم سليمة وعيونهم غير تالفة، ولم يتبقى في شوارع الخرطوم ومجالس المدن غير جدلٍ ساخن وبضع مغالطات غليظة حول أجواء ذلك (السبت) الاستثنائي، سبت التكتيكات السياسية، والذي يمكن قراءته مجدداً من منظور الفُرجة على المعلب السياسي السوداني، لأنه يمنح تفسيراً مجانياً عن عبقرية (المنازلة) السياسية بين الإسلاميين وقوى الحرية والتغيير وقتما يكون صراع البقاء هو البوصلة التي تتحرك مؤشراتها لبلوغ الأهداف الممكنة، ويكون الجمهور هو الحكم الأوحد.

الدعاية للزحف

منذ البداية، استخدم (الإسلاميين) ذات الإسلوب الدعائي الذي ابتكرته قوى الثورة السودانية عبر نشطائها في مواقع التواصل الاجتماعي، للإعلان عن مسيرة الزحف الأخضر تزامناً مع يوم النطق بالحكم على المخلوع البشير . وبالطبع لم تكن المزامنة هي بمحض الصدفة، فمن قبل ابتكرت قوى الحرية والتغيير الإعلان عن أكبر مليونياتها التي غيرت مسار التاريخ في أيام كانت تربطت بمناسبات تاريخية ، مثل يوم السادس من أبريل وهو يوم ذكرى الانتفاضة في 1985، ونجحت فيه قوى الحرية والتغيير في بلوغ هدفها عبر وصول الثوار إلى محيط القيادة ذلك الهدف البعيد والمُعلن رسمياً. ثم انتهجت قوى الحرية والتغيير ذات النهج في مليونية الـ30 يونيو وهو اليوم الذي يصادف ذكرى انقلاب الإسلاميين 1989، وقد نجحت الحرية والتغيير أيضاً في إحالتها إلى مليونيات هادرة عززت بها مطلب الجماهير للدولة المدنية وفرض معادلة جديدة على المكون العسكري الذي كان وقتها يتلكأ كثيراً في منح الحرية والتغيير حصتها المدنية في المجلس السيادي وإشرافها المُطلق على إختيار مجلس الوزراء. لكن (الإسلاميين) إختاروا يوم النطق بالحكم على الرئيس المخلوع، ربما لإعتقادتهم بأن البشير يمثل الرئيس الشرعي، وهو يمثل أيضاً رمزية الانقاذ وحكم الإسلاميين الذي دام ثلاثين عاماً. وبالفعل ابتدع (الإسلاميين) ذات الأساليب الدعائية القائمة على فن التشويق في (البوستر) واستخدام لغة الإثارة مثل الزحف الأخضر وتعزيزها بالألوان والصور المُلفتة للانتباه مثلما كان يفعل ثوار الأحياء بالضبط. إختار (الإسلاميين) منصات التواصل الإجتماعي و صفحات الحوائط للإعلان عن مسيرتهم وهي بالطبع ذات الوسائل التي أكسبت الثورة السودانية نجاحاً باهراً، إلا أن (الإسلاميين) إصطدموا بأن رواد التواصل الإجتماعي هم الغالبية التي تؤيد الثورة، وهي ذات القاعدة التي لعبت دوراً فاعلاً في استهجان الدعوة لمسيرة الزحف الأخضر، ومما جعلها تبدو وكأنها يتيمة من أي مناصرة شعبية عفوية لا علاقة لها بالإنتماء للإسلاميين.

مغالطات أخرى

يرى الكاتب الصحافي الإسلامي إسحق أحمد فضل الله، والذي وثقته عدسات الكاميرات وهو محمولاً على أعناق المتظاهرين يوم سبت الزحف، يرى وعبر زوايته (آخر الليل) في أخيرة (الإنتباهة)، أن الإسلاميين حين تساءلوا عن كيف يمكن صناعة إعلام يلفت كل أحد للمسيرة، استخدموا غباء (قحت) لهذه المهمة، وقال إن إعلام قحت- وأظنه يقصد منصات الأسافير- ظل في الأشهر الأخيرة يصب البذاءات والأكاذيب والرقص والإلحاد المعلن، وأن المشاهد هذه تجذب عيون من يهتم بالشأن العام ومن لا يهتم. وبالطبع هذه المغالطة التي صاغها الكاتب الإسلامي تدحضها المسيرة نفسها، فلو كان الأمر كذلك بالفعل لخرج كل المسلمين في السودان وأسقطوا حكومة حمدوك (المُلحدة) واقتحموا المحكمة وأخرجوا البشير وحملوه على الأعناق . فقد أظهرت معظم الفيديوهات والبوستات و(الكومنتات) المبذولة على الأسافير، استهجاناً كبيراً بمسيرة الإسلاميين، وقد كانت كثير من التيارات الإسلامية الشعبية أنكرتها ورفضت المشاركة فيها، مثل المجمع الصوفي السوداني، وكذلك طائفة الأنصار وطائفة الختمية، بل أصدرت التنسيقية العليا للإدارات الأهلية بياناً تبرأت فيه عن المشاركة في المسيرة، فكيف تسقيم مغالطة إسحق أحمد فضل الله؟ .

الرهان على الجيش

من الوهلة الأولى يُلاحظ أن (الإسلاميين ) راهنوا على استجابة الجيش لمطالبهم حين يصبح الأمر واقعاً وتتدفق جموعهم في الشوارع، وكثفوا أنشطتهم قُبيل المسيرة بمغازلة الجيش وأشاعوا منذ فترة ليست بالبعيدة بأن قيادات الجيش لا ترضى من آداء حكومة حمدوك، بل ذهبت إحدى الصحف المحلية المُقرب مالكها من التيار الإسلامي إلى إبراز سخط الجيش حتى من قميص حمدوك في طابور الشرف. وبرع الإسلاميون في إستغلال مطالبة الحرية والتغيير بتعيين ولاة مدنيين بغرض أن ينتفض الجيش ضد خسارة محتملة لولاة عسكريين يحكمون الولايات. لكن بالمقابل نشطت الحرية والتغيير في تعزيز ثقة الجيش في آداء الحكومة التنفيذية عبر النشاط الدبلوماسي الذي يبذله رئيس وزرائها حمدوك فيما يتعلق بأكثر الأمور حساسية وأكثرها جلباً للاستقرار، وهو ملف العلاقة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية فيما يتعلق برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب التي أوقع الإسلاميين فيها السودان بأخطاء فادحة، وكذلك جلب الدعم المادي واللوجستي لحكومة الفترة الانتقالية وإقامة شراكة ذكية في كثير من المشاريع الانتاجية داخل السودان، وهو ذات الأمر الذي قطعت فيه حكومة حمدوك أشواطاً مقدرة تُجبر الجيش على عدم الاستعجال في إظهار أية نوايا أخرى للتخلص من حكومة حمدوك. وقد تجاهل الإسلاميون عن عمد بأن المكون العسكرى في حكومة الثورة تعهد تعهداً دولياً وإقليمياً بحماية الثورة عبر وثيقة دستورية معتمدة، فضلاً عن أن هناك لجان تحقيق حول فض الاعتصام وهي صك البراءة الذي يسعى له المكون العسكري أمام عيون العالم المفتوحة، مهما كانت وعورة عدم الانسجام مع قوى الحرية والتغيير.

بيان الجيش

ربما كان صادماً ومحفزاً في ذات الوقت، أن يخرج الجيش عن صمته عبر بيان رسمي بأنه يقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية، وهو البيان الذي بنى عليه الجيش اجراءاته الاحترازية بأن يغلق الشوارع المؤدية للقيادة العامة وأن ينتشر بكثافة في شوارع الخرطوم منذ فجر السبت. وبالطبع بعض الإسلاميين انتقد انتشار الجيش وإغلاق الشوارع ظناً بأن هذا الإجراء هو إظهار للرعب الذي تعيشه حكومة (قحت)، ولكن الذي يدركون بواطن الأمور، أدركوا أن وجود الجيش في الشوارع يحمل دلالات أخرى هم يعلمونها جيداً، وهي أن الجيش يتحسب لأي أحداث تخرج من طورها القانوني المسموح به. وأصر الإسلاميين الذين يديرون المسيرة من خلف الكواليس على قيام المسيرة حتى تبدو مُعبرة عن قطاعات كثيرة من شعب السودان، وفي حال اعترضها الثوار أو اشبكوا مع المتظاهرين ينتقل مربع الأحداث إلى دائرة أخرى تمنح الجيش الضوء الأخضر للتدخل الفوري ومعاقبة حكومة (قحت) بذات المعاقبة التي تمت بها معاقبة حكومة البشير. لكن كانت (قحت) تدرك كيف يفكر الإسلاميين الكبار، فنشطت كوادر (قحت) في توجيه كثير من نشطائها بالتركيز في إحتفلات ذكرى الثورة بعيداً عن الاحتكاك بمسيرة الإسلاميين، وبالفعل كان مساء الجمعة المنصرم هو بمثابة أكبر (بروفة) أشعلها ثوار الأحياء في الميادين والطرقات لمنح الجماهير طاقة إضافية بالإحتفاء بثورتهم ومن ثم بث الإطمئنان في نفوس المواطنين بأن الثورة فعلاً تراكمياً مستمراً مهما تبدلت الأحوال أو خرجت الظروف عن السيطرة.

مناسبة النطق بالحكم

لم تكن محكمة السبت التي تم إعلان الحكم فيها على المخلوع البشير مناسبة اعتيادية، وبالطبع لم تكن طبيعة النطق بالحكم أياً كان نوعه يخرج من حسبات (الإسلاميين) المتزامنة مع يوم مسيرتهم، وقد تم التنسيق بدقة بين هيئة الدفاع عن البشير، وبين منظمي المسيرة، والشاهد على ذلك أن عضو هيئة الدفاع والقيادي بالحزب المحلول، محمد الحسن الأمين، كان قد صرح لـ(الجريدة) بأن المؤتمر الوطني متمسكٌ بقيام المسيرة، وأن المسيرة تهدف للإحتجاج على الأوضاع التي خلفتها حكومة (قحت)، وأن البوستات المتدوالة عن تراجع الحزب عن المسيرة ما هي إلا أعمال دعائية مفبركة ينشط فيها نشطاء (قحت) لتطمين جماهيرهم، وأن جميع شركاء الوطني هم مع المسيرة. لكن حدث ما لم يكن يخطر في بال عضو هيئة الدفاع عن البشير، فلم ينجرف قاضي المحكمة في إنزال عقوبة كبيرة على البشير، كما أنه لم يبرئ البشير من التهمة، وقد كان الحكم مُحبطاً لأنصار المسيرة أكثر من كونه مُحفزاً للاستمرار في الزحف، حيث تدافعت قوى الثورة وعلى رأسها تجمع المهنيين في تأييد الحكم ولم تعتبره مُخففاً، وكذلك تحالف المحامين الديمقراطيين سار على ذات النهج، وهو الأمر الذي إمتص حماس الثوار الذين ينتظرون إنزال أكبر عقوبة على رأس النظام البائد، ومن ثم هو ذات الأمر الذي أداره تجمع المهنيين بحكمة سياسية بالغة حينما سارع بإصدار بيانه الذي حكم فيه على النظام بأنها أكبر إدانة أخلاقية وسياسية تُحاكم بها الإنقاذ نفسها في شخص رئيسها.

الدعم السريع

لم يعول (الإسلاميين) على قوات الدعم السريع في هذا اليوم، لأنها في نظرهم هي التي قصمت ظهرهم يوم سقط البشير وسقط من بعده ابن عوف، لكنها أيضا بالطبع لم تغب عن أنظارهم، لكنهم تجنبوا استثارتها واستفزازها في تلك المواقيت الحالكة، لكن هناك ومن على البعد كان رئيس حزب الأمة القومي الإمام الصادق المهدي، ومن الدمازين وفي ذات الأثناء التي يتجمهر فيها الإسلاميون في الخرطوم، كان يرسل النداء بأن تتعامل قوى الثورة مع قائد قوات الدعم السريع (حميدتي) بفعله الإيجابي المناصر للثورة في أحلك أوقاتها، وكان حميدتي نفسه قد مهد فعلاً إيجابياً آخر حينما قرر تسليم جبل عامر لحكومة الثورة وعلى طبق من ذهب، وهكذا خسر (الإسلاميين) زحفهم وعادوا إلى ديارهم لا يكتنفهم شئ آخر غير الزهو بأن خروج المسيرة نفسها أعاد إليهم الروح، وهم من كانوا في السابق يتخصصون في تسيير المليونيات للبشير أينما حل!!.

تحليل سياسي: عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة

‫2 تعليقات

  1. الإسلاميون جزء من الواقع السياسي والاجتماعي ولو كان الحل والتجميد يؤدي للزوال لزال الحزب الشيوعي بعد حله سنة 65. الحل هو المصالحة من أجل الوطن والمواطن وليس التأجيج بالمقالات والأفلام مثل فيلم الصادق المهدي وخالد سلك وأفلام القراي ومفرح ونصر الدين لأن الشعب هو من يدفع الثمن في حال نشوب الحرب الأهلية التي لا دين لها.

  2. الزحف الأخضر
    رد علي من قال لو رجال اطلعوا ..
    و الرجال طلعوا.وزحفوا ولم يجدوا جداد قحت .