أبرز العناوينتحقيقات وتقارير

المشهد الأخير من محاكمة البشير .. شبحًُ يجول داخل معهد التدريب القضائي “١”

قبيل فجر السبت الأخير كانت السيارات المندفعة صوب القصر الرئاسي تكلم بعضها بلغة سرية، المدينة غارقة في سبات عميق، الأسوار العالية والقصيرة اغتسلت بطلاء حملة الزحف الأخضر، كانت صور الشهداء تطل بين حين وأخر على الناجي عبد الله، المتنازع بين عشريتين، هاهو يمسح لحيته في ظلام حالك، مرددا ” أنت يا نفسي هجين أنت نفس وقرين كلما شب الحنين قلت نمضي بعد حين” .. كانت كل الحواجز النفسية تقريباً بعد المفاصلة تذوب كما تذوب قطعة الزبدة في الزيت الساخن، وراء المنصة الكبيرة الصاخبة تُشهر سيدة في انفعال غير مكتوم عبارة “القحاتة تحت الباتا” كمكافئ على الأرجح لـ”أي كوز ندوسه دوس” وهى كما يبدو تجاهد لاستعادة توازن الرعب بين اليمين واليسار، على النقيض مما انتهى إليه التجاني عبد القادر (صناعة الثنائيات المدمرة).

بعد دقائق سوف يدلف القاضي الصادق عبد الرحمن الفكي ليقدم مرافعة تاريخية، قبل تلاوة النطق بالحكم، الأجواء مشحونة بالانفعالات، والجانب المخصص لأسرة الرئيس المعزول فارغ محتقن كفحيح مكيفات الهواء، لم يحضر احد، أو بالأحرى لم يسمح لهم بالدخول هذه المرة، باستثناء علي حسن البشير، وهو يتأمل لوحده صورة شقيقه خلف السياج الأزرق الضيق بوجل، كان المشير لا يزال يحمل أكبر رتبة في الجيش السوداني، وقد بلغ عمره في هذه الساعة (76) عاماً، قضى منها في الحكم (360) شهراً، ونحو (214) يوماً داخل سجن كوبر .

درجة التأمين غير معتادة، كما لو أن قاعة المحكمة بقعة داخل مركز قيادة الجيش لفرط التحفز المروع، الشوارع التي قادتنا إلى هنا كانت قد استسلمت تماماً لدرجة الاستعداد القصوى، وبين الصفوف لمعت صورة ساخرة لإسحق أحمد فضل الله عوض الأيقونة المصنوعة في الجانب الأخر، ألاء صلاح بأقراطها الذهبية على شكل قمرين، كما سوف تحكي ريشة إسحق أخر الليل ” لو كنت معنا في الحفل يا أستاذ” أما الحكم فهو لم يتجاوز تلاوة أوراق مبعثرة على طاولة القاضي، وهو يستشهد طويلا بسيرة الفاروق عمر بن الخطاب، دونما مرة، قبل ان يوقع الإدانة الاستثنائية على المتهم الاستثنائي .

أخذت فترة تلاوة القرار نحو ساعة كاملة تقريباً، كان فيها البشير واقفاً على أرجله، دون عصاته بالقبضة الفضية، وقد حافظ على وجه جامد خالٍ من التعبيرات، سرد القاضي حيثيات القرار، بعد أن فض مظروفاً باللون الأصفر، استغرقت عملية فتحه ثلاثين ثانية، مستعرضاً وقائع كافة جلسات المحاكمة، والشهود ال١٣ إلى جانب سوابق قضائية، منها حالة من جنوب السودان، وقد حرص القاضي على دحض مرافعة الدفاع الختامية دون أن يفوت موضع الشولة، بدأت القاعة تغمغم وتغمغم، انتصب أبوبكر هاشم الجعلي مزمجرا بعد أن أدرك مآلات الحكم، فطلب سماع موكله، تقدم نحو السياج ببطء وهمس في أذن البشير، ليتلقى عبارة واحدة، اذاعها بطريقة مؤثرة ” موكلي ضابط رفيع بالقوات المسلحة لا يريد أن يستجدي أحد، لا يطلب التخفيف، وحتي ولو حكم عليه بالاعدام لن يرتجف” بعدها تبدل المشهد لدى أصحاب الياقات السوداء، فريق الدفاع برمته تحت قيادة رئيس البرلمان الأسبق، فشعروا بأنهم لا يدافعون عن متهم يؤمنون بعدالة قضيته فقط، وإنما رجل صاحب رمزية تعني لهم الكثير، لم يكن أحد على الإطلاق يتخيل شكل النهاية، إلى حد الحكم عليه بالتغريب، وإيداعه دار الإصلاح الاجتماعي، ليقضي فيها عامين، وبدأ لهم أن الحكم يتضمن إشارة مهينة، بعد تأكيد القاضي إن الرجل كان موظفاً عاماً، انتفت عنه الحصانة الدستورية، وأن فترة إيداعه تبدأ بعد الفصل في البلاغ المدوّن ضده حول انقلاب الإنقاذ، بعدها يسري عليه قانون التدابير الخاصة الذي يحظر سجن أو إعدام من تجاوز سن السبعين عاماً.
وعندما منحت المحكمة النيابة فرصة مطالبة أخيرة، كتشديد العقوبة مثلاً، اكتفى رئيس هيئة الاتهام ياسر بشير بالقول ” الأمر متروك للمحكمة” فهو ربما لم يكن يطلب أكثر من ذلك.. وقتها كانت هدية بن سلمان، وكان القاضي أيضاً يسرد قصة إبن اللُّتْبيَّة مع صدقات بن سليم، مستشهدا بالقول النبوي ” فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك” كان هاشم الجعلي في حيرة من أمره لتجاهل القاضي أن المتهم لم يثري من تلك الأموال، ولم يتعامل بتجارة البيع والشراء في الدولار اطلاقا، قبل أن يردف ” هذه المحاكمة تمت في أجواء سياسية أثرت على العدالة” .
في هذه اللحظة كان ثمة شبح يجول داخل معهد التدريب القضائي بضاحية أركويت، شبح مجدي محجوب، الذي استشهد به القاضي في محضر السوابق الماثلة، ولربما حاولت والدة مجدي الحاجة هانم عباس التخلص من عذابات الذكرى، وهى تتابع من مكان ما هيجان الطبول العنيفة وراء بوابة التاريخ الحزين .

نواصل
عزمي عبد الرازق
عزمي عبد الرازق 2