مواصلة محاكمة البشير تحت لعب ضاغط للدفاع وتدفق الأسرار والأسماء.. صاحت فتاة بلهجة أقرب إلى المصرية “ربنا يحميك يا ريس”
الطبل الذي ظل يزف البشير من ولاية إلى أخرى، هاهو يرتخي شيئاً فشيئاً عند قبضة حاجب المحكمة، طرق غير عنيف تحت سماء صافية وأجواء مسكونة بدسيسة الأمل. قالت مذيعة الراديو بصوت حالم رقيق ” أعزائي المستعمين، نحن في عهد رئيس جديد للبلاد، هو عبد الله حمدوك، وحكومة ولدت من رحم معاناة الثورة ” ومن ثم اندلق صوت محمد وردي لطيفا وناعساً كنسيم الفجر في “الطير المهاجر” .. بدا الرئيس السابق، أو سمه المخلوع إن شئت، وحيداً غريباً في زنزانته، وقد انطلقت جلسة جديدة من تدفق المعلومات والأسرار والأسماء، بينما انفجرت ماسورة الصرف الصحي شمال المحكمة، وانبعثت على إثرها رائحة روث البهائم وطلمبات الوقود، ومواء القطط التي دهستها سيارات أخر الليل .
القاضي الصادق عبد الرحمن تأخر لخمس دقائق، على غير العادة، وكان الهمس يرتفع وسط المدرج على مقربة من عيون الصحافة المتعبة الجاحظة، إنها الأسرة التي كانت حاكمة، أفرادها يرتدون الثياب والأقمصة العادية والجينز وقد اعتقلتهم المحاكمة بين ألم وأمل، فيما جاء الطيب مصطفى مؤازراً إبن أخته، وقد طعن وجهه الحزن، عندما خصاه البشير بتحية صامتة، فانتصب الخال الرئاسي، ليرد التحية بمثلها مندفعاً بذكرياتٍ هائلة، ليست أقل من تلويحة رحيل الجنوب جنوباً.
إرهاق الشاهد الأبرز
مع دخول البشير ودوي الهتاف المتعجل صاحت فتاة بلهجة أقرب إلى المصرية “ربنا يحميك يا ريس”، وقد سجلت هيئة الاتهام حضورها من ستة أفراد، وكان لافتًا سقوط القاعة تحت ضوضاء الأجهزة الإعلامية. الكاميرات كانت تتحرك بحرية واسعة، بقصد منح الجلسة بُعدها الإعلامي المطمئن للشارع، وتأكيد أن الرجل الذي حكم البلاد لثلاث عقود يحاكم، بدمه ولحمه حقيقة لا مجازاً. وقد تخلف الشاهد الأبرز حاتم حسن بخيت مدير مكتب البشير، بعد أن أضناه العياء، نسبة للاعتقال والتحريات المشددة. وكان ممثل الدفاع أبوبكر هاشم الجعلي قد نبه القاضي إلى أنه بمجرد إعلان اسم حاتم بخيت في الجلسة السابقة هبت النيابة واعتقلته وحققت معه حتى تسببت له بمشكلة في الضغط والسكر، ولذلك يصعب أن يبذل شهادته في هذه اللحظة، رغم أنه الأول والمهم في سياق تسلسل الوقائع.
نتيجة لذلك طلب الدفاع من القاضي حماية الشهود من الهجمات، حيث أنفاس المخبرين تملأ الليل والنهار الطويل، لكن القاضي أبدى استغرابه لكون حاتم لم يمثل أمامه، وبالتالي هو في حل عن تلك الحماية قبل مثول الشاهد، أما إذا كان القبض غير قانوني فهو أمرٍ آخر، لكن ممثل الاتهام قاطع المحاججة القانونية بأن حاتم متهم قبل أن يكون شاهدًا.
تعديل ورقة الاتهام
تلت هيئة الدفاع قائمة الشهود، مستحضرة اسم حاتم بخيت للمثول في جلسة قادمة، إلى جانب مندوب من جهاز المخابرات، ومندوب من المجلس السيادي، تحديدًا المكون العسكري، ومندوب من الدعم السريع، ووزارة المالية، وآخرين لم يُمط عنهم اللثام بعد، في محاولة لحمايتهم من قبل الدفاع، الذي بدا يتنهد بقلق إزاء ما يجري في الخفاء.
لكن ثمة ملاحظة مهمة ربما سهلت مهمة الدفاع عن البشير، اجتراح يتسم بالدهاء، أو ربما كان بداية انفراجة مؤقتة، وهو التماس هيئة الدفاع بتعديل ورقة الاتهام، اعتمادًا على المادة 140 من قانون الإجراءات الجنائية، وإعمال سلطات المحكمة حول ملابسات أخذ الاعتراف القضائي، إلى جانب إيداع قرار رئيس المجلس العسكري سابقًا والسيادي حاليًا عبد الفتاح البرهان، بإلغاء مادة تجريم حيازة النقد الأجنبي، وهي التهمة الرئيسية للبشير، وبتضمين القرار، وفشل الاتهام في إثبات أن البشير يتاجر بالدولار، من خلال البيع والشراء، ربما سقطت التهمة، وحصل على البراءة، عطفًا على تهمة الثراء الحرام الذي لم تُقدم فيه بينة بعد تقريبًا، وعندما قال القاضي لممثل الاتهمام “سوف يراعى طلبك”، تهللت أسارير كل أعضاء الهيئة وأسرته بصورة خاصة.
كمال عبيد في الكواليس
بدا الشاهد الأول عبد المنعم محمد الخضر ممثل جامعة أفريقيا العالمية يتدفق بالمعلومات، مع بعض محاذير بعد أن أدى القسم وقدم إذن شهادته ممهورًا باسم مدير الجامعة الدكتور كمال عبيد، القيادي بالحزب الحاكم السابق، وقال الخضر في محضر شهادته أنه كان مسؤولًا عن الإدارة المالية، وقد تسلم المبالغ باليورو، لدعم مشاريع الجامعة المخصصة للتعليم الإلكتروني والمزارع، وكشف عن قيامه بايداع مليون يورو في حساب الجامعة، أربعمائة ألف في بنك أم درمان، وستمائة ألف في بنك الشمال، كان هذا في منتصف العام 2018 أما في نهاية العام فقد استلم 2 مليون يورو، أودعها في ذات حساب الجامعة على دفعتين. وعندما سأله الدفاع هل جاءت الأموال من رئاسة الجمهورية أم من رئيس الجمهورية؟ رد الشاهد بالقول “جاءت من رئاسة الجمهورية”. وأجاب على سؤال مصادر ميزانية الجامعة بأنها من الرسوم الدراسية بالعملة الحرة، وحول سؤال علاقة البشير بجامعة أفريقيا؟ قال الخضر: “أن البشير هو راعي الجامعة ويتولى دعم مشاريعها ويحضر اجتماعات مجلس الأمناء”، وقد عرض الشاهد المستندات التي توضح أوجه إيداع المبلغ برمته أمام القاضي.
هنا بدأت مهمة الاتهام، ابتداء بإرهاق الشاهد والتشكيك في صحة المستند المصور، حيث يصعب تمييز الختم، والتاريخ بصورة دقيقة، كمال ذكرت الهيئة، بينما انبرى الدفاع بأن مستندات المصارف رسمية ولذلك الصورة مقبولة، لكن يمكن توفير الأصل إذا طلبت المحكمة ذلك، وقد قبل القاضي المستند شكليًا إلى حين وزن البينات. وعندما سأل الاتهام الشاهد حول جامعة أفريقيا؛ هل هي حكومية أم خاصة؟ رد الشاهد باقتضاب “خاصة”، وأشار إلى أن المبلغ استلمه المدير كمال عبيد وسلمه له نائبه حاتم عثمان ليقوم بإيداعه، علمًا بأن الجامعة لا تخضع للمراجع القومي. وهذه معلومة لا بد سوف تأخذها صحافة التحقيقات بأهمية بالغة.
محاكمة جامعة أفريقيا
جاء السؤال الثاني مباغتًا للشاهد من قبل الاتهام: للجامعة مزارع تدر عليها دخلًا ماليًا أين يصرف؟ فتدخل القاضي ومنع الإجابة على هذا السؤال باعتبار أن الجلسة ليست مخصصة لمحاسبة جامعة أفريقيا، لكنه نفسه تبرع بسؤال آخر، وهو إن كان الدعم جاء من البشير بصفته الشخصية أم من رئاسة الجمهورية؟ وقد كرر القاضي هذا السؤال على المتهم الثاني بنفس الصيغة، كما لو أنه يريد أن يبني عليه الحكم الأخير، وأردف متسائلًا حول المخالصة بالمبلغ كله، هل تمت باسم رئاسة الجمهورية أم بأي جهة؟ وقف الشاهد لبرهة من الزمن، قبل أن يجيب مكتفيًا بالقول إنه لا يعلم.
شاهد رأى كل شيء
مر الوقت بطيئًا، كنهر من الطمئ وكانت الساعة تدنو من منتصف النهار، حين عبر الشاهد الثاني إلى مرحلة أداء القسم، فهو شخصية مهمة، لأنه كان يشغل منصب مدير مكتب الرئيس والقائد العام للجيش، وهو اللواء ركن ياسر بشير، جاء يرتدي الزي المدني بحكم إحالته للمعاش. لكن ثغرة كهذه لا يمكن أن يضيعها الاتهام دون أن يطعن في الضابط الذي لم يشهر إذن حضوره للمحكمة، وقد طلب المستشار الهادئ وفقًا لنص المادة 25 المتعلقة بإفشاء المعلومات السرية باستبعاد شهادة اللواء ياسر بشير، خصوصًا وأنه لم يأت بإذن من القوات المسلحة وأصر على طلبه، لكن الدفاع رد بأن ما وصل الشاهد من معلومات ليس ذا طبيعة سرية، وهي ليست معلومات أكثر من كونها وقائع وبينات مالية، وقد رفض القاضي التماس الاتهام باستبعاد الشاهد.
اللواء ياسر بشير ظل يدير مكتب الرئيس السابق القائد العام للقوات المسلحة منذ العام 2015 وبعد تعيين حاتم بخيت ظل سكرتيرًا في كل المكاتب، داخل القيادة ورئاسة الجمهورية، حتى الإطاحة بالبشير في نيسان/أبريل الماضي، وأشار إلى أن بيت الضيافة يتكون من ستة بنايات أساسية، مكتب الرئيس والغرف الملحقة به إلى جانب ثلاثة مكاتب سكنية، ولا يسمح للأسرة بالدخول إلى المكاتب الرسمية في بيت الضيافة دون إذن، واعترف بأن المبالغ كانت موجودة في مكتب الرئيس لا المساكن، وأن مهمته تقتصر على توصيل الأموال التي يتبرع بها البشير، وبعد أن أحيل إلى التقاعد قام بعملية تسليم وتسلم مع مدير مكتب رئيس المجلس العسكري وقتها، وقد اعتمدها الفريق البرهان شخصيًا، وفصل المبلغ على الجهات التي سلم لها بإيصال مالي، من بينها 5 مليون يورو تسلمتها قوات الدعم السريع، و2 مليون يورو لوزارة الدفاع، و2 مليون يورو أخرى للسلاح الطبي، كلها تحت تصرف وزارة الدفاع، إلى جانب مليون ومئتي يورو أخرى قال إنه سلمها للتصنيع الحربي، والمبالغ جملتها 10 مليون يورو، لافتًا إلى أن كل المستندات موجودة لكنه لم يضمنها في عملية التسليم والتسلم، بحسبانها أموالًا شخصية لا تخص الدولة.
اعتراضات الاتهام
لم يفوت الاتهام فرصة الاعتراض على المستندات التي كشف عنها سكرتير البشير اللواء ياسر بشير باعتبار أنها بلا ترويسة أو ختم، وجاء الرد من قبل الدفاع بأن المستند، كان إيصالًا ماليًا وقع عليه الشاهد بنفسه، مع طرف آخر، أو شخصيات اعتبارية، وأضاف الشاهد أن مستندات وزارة الدفاع اعتمدها مدير مكتب رئيس مجلس السيادة الحالي، وهو مطلوب في قائمة الشهود، أما قوات الدعم السريع فقد استلمت المبلغ بحضور القائد العام الفريق محمد حمدان حميدتي، وتسلمها شقيقه اللواء عبد الرحيم حميدتي، دون أن تتم العملية بصورة مكتوبة.
لكن الشاهد احتاط لهذه اللحظة وقام بمراجعة الرئيس وقتها، فقام البشير بكتابة تصديق بالمبلغ الذي منح للدعم السريع، وقد أحضر الشاهد تصديق الدعم السريع مسببًا، وهو شراء مشتقات بترولية. عطفًا على مبالغ أخرى كانت تحت تصرف اللواء ياسر، بهدف دعم العساكر والمدنيين، الذين يلجأون للرئيس، من بينهم فنانون، قالت هيئة الدفاع إنها لا تود الكشف عن أسمائهم حتى لا تسبب لهم حرجًا، لكن المحكمة إن رأت الكشف عن الشخصيات التي حصلت على الدعم يمكن ذلك. وهنا وقف الاتهام مطالبًا بتفصيل صرف المبلغ. فقال القاضي إن تصرف الشاهد ليس محل محاسبة، وقد اعترض الاتهام على سؤال خاص بعلاقة الرئيس بالمدعومين، فقال القاضي مؤيدًا الاعتراض: “كلنا كنا في ذمته”.
أين طارق سر الختم؟
بالنسبة لبقية المبلغ الذي تم ضبطه في الغرفة، بالعملة المحلية، قال الشاهد إنه استلمه من مدير شركة سين طارق سر الختم، وأودعه في الغرفة بعد أن أحكم إغلاقها، وأضاف بأنه كتب إيصال استلام مبلغ 5 مليون جنيه من سر الختم، تحت مسمى أمانة، كما أخبره البشير، وأضاف الشاهد: “مقابل هذا المال لم يأخذ طارق شيئًا”. وعندما سأل الاتهام الشاهد، عن المبالغ الموجودة في الغرف كم هي وما هو مصدرها؟ قال باختصار “لا أعلم” واستطرد الاتهام في السؤال: غرف المال في بيت الضيافة من يدخلها غير الرئيس؟ الشاهد: لا أحد. الاتهام لا بد أنك كنت تذهب مع المتهم في رحلات خارجية، فهل كان يتسلم أية أموال؟ الشاهد: لا إطلاقًا. وأضاف كمن استدرك: “أنا يا سعادة القاضي احتفظت بالإيصالات لهذا اليوم، لإني كنت متوقعه”.
وبعد ذلك سرعان ما انطلق السؤال أين طارق سر الختم؟ فثمة من يزعم بأنه معتقل لدى السلطات السودانية، وثمة من يقول بأنه في الخارج، لكن ورقة، عبارة عن وصل استلام نصيب شركته من العملة الأجنبية وصلت إلى هيئة الدفاع، ما يعني أنه على تواصل معها، من داخل السجن أو خارجه لا أحد يعلم بالتحديد. لكن القاضي لم يشر إلى أن طارق هارب كما اعتمد على تقرير النيابة في الجلسة السابقة، وهذا عزز الغموض حول مكان تواجد المتهم والشاهد الأخطر في هذه القضية.
انقلاب أم ثورة؟
قاعة المحكمة خاضت في السؤال: هل ما جرى انقلاب أم ثورة؟ وذلك بعد أن سأل الاتهام الشاهد بالصيغة “لحظة نجاح الثورة أين كنت؟”، فرد عليه الدفاع بل لحظة الانقلاب، وحسم القاضي الأمر بالإشارة إلى ما تم من تغيير. وعندما سأل الاتهام الشاهد لماذا لم تقم بعملية تسليم وتسلم لهذه المبالغ؟ قال “لأنها مبالغ شخصية”. وسأله القاضي: سلمت المبلغ للجهات التي ذكرتها بأي صفة؟ قال الشاهد: مدير مكتب الرئيس. وأردف القاضي: في مخاطبات التسليم والتسلم، ما هي صفة المتهم؟ قال الشاهد “رئيس جمهورية”. القاضي مرة ثالثة: الأموال صرفت بصورة رسمية، وتحت اسم رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة، فهل كانت هنالك إجراءات رسمية؟ قال الشاهد: “أبدًا ما في”. وجاء السؤال الأخير من قبل القاضي عن “المبلغ الذي تسلمته من طارق سر الختم كان مقابل ماذا؟”. رد الشاهد “لا أعرف”.
استحضار اسم بن سلمان
أما هيئة الدفاع فقد طالبت بتعديل ورقة الاتهام، حول عدم مشروعية مصدر الأموال، وعدم الانتظام في إقرار الذمة، إلى جانب الاشتراك الجنائي مع طارق سر الختم في التعامل غير المشروع بالنقد الأجنبي، واعتبر الدفاع الطعن في عدم مشروعية مصدر الأموال يطال المصدر نفسه، وهو محمد بن سلمان، واعتبار التعامل معه عدم مشروعية، يؤثر تأثيرًا ضارًا على العلاقات الدبلوماسية للبلاد، ويقتضي الخوض في التقديرات السياسية والسلطات السيادية الممنوحة للرئيس بموجب الدستور.
عطفًا على أن ورقة الاتهام لم تحدد التهمة الموجهة للبشير، هل بسبب كيفية الاستلام أم بسبب الاستلام نفسه كيفما كانت طريقته؟ والأهم من ذلك، وفقًا لورقة الدفاع، فإن المحكمة عند توجيه تهمة التعامل بالنقد الأجنبي، لم تأخذ في الحسبان حالة الطوارئ المفروضة في البلد، والتي تخول للرئيس سلطات وصلاحيات غير محدودة، كما التمست هيئة الدفاع إعادة سؤال موكلها عن الاعتراف الذي تلته عليه المحكمة، لتحفظات المتهم عن ملابسات أخذ الاعتراف في السجن من قضاة، وصفهم الدفاع بأنهم “سياسيون وناشطون لديهم خصومة مع المتهم” .
عزمي عبد الرازق
– ألترا صوت