اقتصاد وأعمال

الغالي متروك.. حملة مقاطعة تثير مخاوف التجار

أطلق ناشطون بوسائل التواصل الاجتماعي حملة “مقاطعين” احتجاجاً على ارتفاع أسعار اللحوم ومنتجات الدواجن، وتبدأ الحملة اليوم 5 ديسمبر حتي منتصف الشهر الجاري، وخلال الأيام القليلة التي سبقت انطلاق الحملة شهدت أسواق اللحوم ومنتجات الدواجن التي وصلت أسعارها لمستويات قياسية ركوداً، يرى المستهلكون أنها غير منطقية ولا يوجد ما يبررها حيث قارب كيلو اللحم 500 جنيه للضأن و400 جنيه للعجالي، فيما تجاوز كيلو الدواجن 190 جنيهاً وطبق البيض 180 جنيهاً، فكانت ردة الفعل هي رفض المستهلكين لهذه الزيادات قبل شروعهم في تنفيذ حملة المقاطعة.

 

التزام تام

تجاوب عدد كبير من المواطنين مع الحملة معلنين التزامهم التام بالتوقف عن شراء اللحوم ومنتجات الدواجن خلال تاريخ الحملة التي تمتد الى 10 أيام، فيما نشطت وسائط التواصل الاجتماعي بحراك كثيف للمغردين ترويجاً للحملة، وبشكل عام تعتبر سلع اللحوم ومنتجات الدواجن مثالاً صارخاً للفوضى التي ضربت السوق، حيث لا تستقر أسعارها عند حد معين فخلال فترة لا تتجاوز 6 أشهر تضاعفت أسعارها بنسبة 100 بالمائة دون أسباب واضحة، وكان طبق البيض بين 70- 80 جنيهاً لكنه تضاعف الى 180 جنيهاً بنسبة زيادة فاقت 120% وذات الأمر ينطبق على اللحوم خاصة الفترة التي أعقبت عيد الأضحى الأخير، حيث كان فرق السعر قبل وبعد العيد كبيراً دون سبب واضح.

أرقام خيالية

وقالت الأستاذة سندس عدلان صغيرون، إن أسرتها تخلت عن شراء اللحوم منذ وقت ليس بالقصير، ولجأت لاستخدام البدائل كالبقوليات والخضر والتي أصبحت ذات أسعار غالية يصعب على العديد من المواطنين الحصول عليها بعد أن وصلت أسعارها إلى أرقام خيالية، لافتة إلى أن الذين يستطيعون توفير كافة احتياجاتهم الغذائية من خضر وفواكه وسلع استهلاكية هم ميسورو الحال، ولا عزاء للفقراء ومحدودي الدخل.

 

المتطلبات الحياتية

خلال رصد “الصيحة” لبعض الأسواق تبين حدوث ركود وتراجع في القوة الشرائية للسلع المعنية بالمقاطعة، بالرغم من إشارة بعض التجار إلى أن الركود ليس جديداً، وهو عام لكثير من السلع بالأسواق لوجود أسباب متعددة منها الوضع الاقتصادي العام وعدم كفاية الدخل العام للمواطنين لتلبية كل متطلباتهم الحياتية اليومية، وقال بعض التجار إن كثيراً من المواطنين باتت اللحوم بالنسبة لهم “ترفاً” لعدم قدرتهم على شرائها.

قرار فاشل

ووصف أحد التجار تحدث لـ “الصيحة” دون أن يفصح عن هويته قرار مقاطعة الحوم بأنه قرار فاشل، وبرر حديثه بأن غالب الثروة الحيوانية ملك للأفراد وصغار المنتجين، وقال إن العدالة أن توقف وتمنع السماسرة من الدخول وتقليل مدخلات الإنتاج، والاتجاه الى التعاونيات، وتشجيع المواطنين على تربية المواشي بما يكفي حاجة الاستخدام المنزلي، لافتاً إلى أهمية دراسة عوامل الطلب والعرض المؤثرة في الثروة الحيوانية. ويرى أن إلقاء اللوم على التجار فيه ظلم كبير لهم، موضحاً بأنهم يتعاملون وفقاً لمعطيات اقتصادية وحسابية هي التي تحدد سعر اللحوم، وقال إن أسعار الخراف نفسها زادت كما زادت منصرفات الترحيل وأسعار الأعلاف التي قفزت لمستويات فلكية مقارنة بالسابق، علاوة على الرسوم التي يسددها التجار والمنتجون للحكومة.

 

تراجع الأسعار

وتابعت “الصيحة” تغريدات المدونين بوسائل التواصل الاجتماعي التي اتفقت على وجوب المقاطعة، وقال بعضهم إن ترك اللحوم لمدة 10 أيام لن يجعل الإنسان “يموت جوعاً” مشيرين لتوفر بدائل غذائية مفيدة ومناسبة وأرخص، وأكد آخرون خفض بعض التجار أسعارهم، حيث تراجع البيض من 180 جنيهاً إلى 100 جنيه فقط في عدد من الأسواق كما انخفض كيلو اللحم إلى 300- 330 جنيهاً، لكن ذلك لم يغرِ المواطنين بالتوقف عن تنظيم الحملة حتى نهايتها المقررة في 15 من الشهر الجاري.

وبحسب قانون حماية المستهلك بولاية الخرطوم لا يجوز زيادة سعر أي سلعة دون الرجوع لوزارة التجارة، وهي الجهة الرسمية التي تحدد تسعيرة السلع بالأسواق، ذلك لا يتم حيث تشكل الوزارة غياباً كلياً على الأسواق ويقتصر دورها على تحصيل الرسوم. وكان قطاع المستهلك التابع لولاية الخرطوم، ينفذ حملات لضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، بيد أن هذه الحملات لم تستمر كثيراً، ولم تؤد الغرض المأمول بسبب عدم القدرة على تغطية ومسح جميع الأسواق..

 

حملات رقابية

وأقر مصدر بالقطاع، تحدث لـ “الصيحة” ـ مفضلاً حجب هويته ـ أن الحملات الرقابية تحتاج لتكاليف باهظة تتمثل في وسائل نقل كافية وكادر بشري مؤهل لتتمكن الوزارة من تغطية مئات الأسواق، وآلاف المتاجر، تتوزع على سبع محليات بالولاية. وبسبب انتهاج الحكومة سياسة التحرير الاقتصادي وخروج الدولة من السوق سيطرت فئة قليلة من التجار والنافذين والرأسمالية على مفاصل العمل التجاري، وتفشت الممارسات الاحتكارية في السلع الرئيسية مثل السكر والاسمنت ومواد البناء ونسبة لا يستهان بها من قطاعات الاستيراد والتصدير، وتمثلت أبرز تبعات سياسة تحرير الأسعار في خروج الدولة كلياً من السوق.

ويصف خبراء اقتصاديون هذا الخروج بالمنطقي، ولكن غير المنطقي هو “غياب الرقابة” على الأسعار بالأسواق، مع قصور الدور الرقابي لوزارة الصناعة والتجارة.

انفلات الأسواق

فيما ترى الخبيرة الاقتصادية، د. إيناس إبراهيم، أن سياسات التحرير الاقتصادي هي السبب في كل ما يعانيه السوق من انفلات طوال السنوات الماضية، وقدمت مقترحاً للحكومة بإلغاء سياسة التحرير كلياً حال كانت جادة في معالجات المشكلات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد السوداني منذ عقدين، وقالت إن إلغاءها هو “أول خطوة في بداية طريق الحل الاقتصادي الشامل”. وقالت إيناس لـ “الصيحة” إن مشكلة الاقتصاد السوداني نشأت بموجب إجراء تم بناء على سياسة التحرير وهو “الخصخصة”، لافتة إلى أن ذلك أدى لإفقاد الحكومة مؤسسات منتجة وحيوية كانت مهمتها ضمان حصول المواطنين على السلع بطريقة ميسرة كما أدت إلى إلغاء الجمعيات التعاونية وانتقدت حل التعاونيات التي كانت توفر السلع للمستهلكين في الأحياء ومواقع العمل بأسعار زهيدة، وتمكين فئات قليلة من التجار من السيطرة والتحكم في الأسعار.

 

غياب السلطات الرسمية

وفي ذات السياق، قال رئيس اللجنة الاقتصادية بجمعية حماية المستهلك د. حسين القوني نتيجة للظروف الاقتصادية وسياسة الحكومة في الفترة الماضية ارتفعت الأسعار بصورة كبيرة مما أدى إلى غلاء طاحن طال السلع الضرورية وأدى إلى انعدام بعض السلع كالدقيق والوقود، والتي أدت إلى سقوط النظام البائد، والغالي متروك، يتم اللجوء إليها حينما ترتفع الأسعار عن الحد غير المعقول، وتتم هذه المقاطعة حتي للسلع الضرورية كاللحوم والألبان والبيض كما هو حاصل الآن ولولا ارتفاع السلع إلى حدود لا يمكن تبريرها اقتصادياً لما تم التفكير في المقاطعة، لافتاً في حديثه لـ (الصيحة) إلى أسباب ارتفاع الأسعار والتي حصرها في غياب الضمير وبُعد التجار عن شرع الله في المعاملات المالية والتجارية فضلاً عن غياب السلطات الرسمية عن مراقبة الأسواق ومتابعتها ومراقبة الأسعار وهي المهام الرئيسية لوزارة التجارة في كل دول العالم، وقال إن غياب وزارتي الصناعة والتجارة في السودان أدى إلى تقصير في عمليات التبادل التجاري وما يتعلق بها. وأضاف: كان للجمعية السودانية لحماية المستهلك دور محدود في حماية المستهلك، لأنها لم تجد الدعم والمساندة من الحكومة خاصة وأنها تفتقر إلى وجود مقر تمارس من خلاله عملها وانشطتها وتنطلق منه إلى متابعة ومراقبة الأسواق واستقطاب دعم المتطوعين لانضمام الجمعية من أجل حماية المستهلك وعامل آخر مهم عدم وجود ميزانية لتسيير أعمالها كل العوامل مجتمعة أدت إلى ارتفاع الأسعار إلى حد الجنون فات طاقة المستهلك، وأصبح يجأر بالشكوى، وسياسة الغالي متروك سوف تؤدي إلى تحقيق الهدف الذي قامت من أجله، مشيراً إلى السلع المطلوب مقاطعتها كاللحوم والألبان والبيض، وقال إنها من السلع الضرورية للأسر وفي ظل ارتفاع الأسعار السائد سيضطر المستهلك لشراء الحد الأدنى منها لتغطية احتياجاته، لذلك لا أتوقع أن تكون لها نتائج مبهرة كما السلع الأخرى.

 

تطبيق القانون

وشدد القوني على أهمية إعادة هيكلة وزارتي الصناعة والتجارة بما يحقق قيام وزارة تجارة تحقق الهدف والدور المنوط بها في عمليات التجارة الداخلية وتوزيع السلع وحفظها وترحيلها وبيعها وتخزينها وتنظيم العلاقة بين البائع والمشتري كما يتطلب الأمر تطبيق القانون القومي لحماية المستهلك الذي تم التصديق عليه في الفترة المقبلة، وإذا تم تطبيقه حرفياً بكل ولايات السودان وعلى كل المواطنين بدون مجاملة، سيحدث انضباطاً في السوق وطالب بإنشاء محاكم ونيابات ومراكز شرطة حماية المستهلك وتفعيل دور وزارة التجارة في الولايات وإنشاء جمعيات لحماية المستهلك بها.

 

تشوه الاقتصاد

من جانبه قال الخبير الاقتصادي د. عبد الله الرمادي إن الغلاء في رفع الأسعار من ضعاف النفوس من التجار حدث نتيجة لغياب الدولة تحت الفلسفة التي حذرنا منه مراراً تمكين سياسة التحرير الاقتصادي والتي أدارت بها الدولة ظهرها للمواطن وتركته عرضة للاستغلال وخرجت من السوق وتركته لضعاف النفوس وظهرت مافيا لكل سلعة والتي تضاعف الأسعار إلى أكثر من 10% من سعرها الأساسي، وأبدى تساؤلاً: من الذي حصل بعد سقوط النظام البائد ولم تشكل إلى الآن حكومة لسد الفجوة في التشوه الذي حصل للاقتصاد؟ لذا فإن مقاطعة الجمهور للسلع الغالية سوف يحدث أثراً وقتياً كبيراً، لكنه وقتي ولا تعالج المشكلة مشدداً على أهمية التحرك وتكون الحكومة في أسرع وقت واتخاذ إجراءات قانونية سريعة وفتح قنوات التوزيع وقد بدأ الأمر قبل عدة أشهر عبر مراكز محددة للبيع المخفض، لكن للأسف أصبحت لخدمة ميسوري الحال وليس الأشخاص ذوي الدخل المحدود، لذا انهزمت الفكرة منادياً بضرورة ابتداع اجراءات صارمة لحسم فوضى الأسواق.

الصيحة