تحقيقات وتقارير

مدينة الحديد والنار تستعيد تأريخها .. عطبرة تلهب الثورة بالقطار الثاني

سائق القطار لـ(الجريدة): لست سائقاً فقط وإنما ثائر وآلمني فض الاعتصام

قيادي بقوى التغيير بعطبرة: مهمة القطار المطالبة باستكمال مهام الثورة

القصاص للشهداء يتصدر مطالب الثوار

هتفت عطبرة في جنح الدجى إيذاناً بتحرك قطارها المجيد لحضور الاحتفال بالتوقيع النهائي على اتفاق طال انتظار السودانيين له وراحت أرواحٌ فداءاً لقدومه، وفي محطة الوطن الكبير احتشدت الآلاف تهدر بالأهازيج والأغاني الثورية والهتافات المطالبة بالعدالة والسلام والحرية والمدنية وقصاص الشهداء، ولم يك غريباً على أهالي عطبرة خروجهم لوداع ممثليهم محملين بأشواقهم ومطالب الثورة التي سموها أمانات الشهداء. كما لم تتأخر جحافل الثوار في كل بقاع الطريق الرابط بين عطبرة والخرطوم، عن استقبال القطار، وشهدت شوارع المدن مع قضيب السكة حديد، تدافع الثوار المستقبلين لأقرانهم، وتسابقهم في إكرام الثوار وتزويدهم بمطلوبات الترحال الثوري الأثير، ولعقت ذرات التراب في الأرض دموع العشرات إجلالاً لعطبرة والثورة وقطارها، ورغم التزاحم الكبير في عربات القطار، إلا أن الثوار كانوا متراحمين متوادين فيما بينهم، تجمعهم آمال الثورة ومطالبها وذكرى الشهداء، وعلت الأعلام ترفرف اشتياقاً للدولة المدنية المبتغاة.

أصل الحكاية
بدأت القصة من لحظة وصول قطار النيل من عطبرة إلى الخرطوم، فبعد الاهتمام العالمي الذي لقيه، وأثره في نفوس الثوار، قررت اللجنة التسييرية لنقابة عمال السكة حديد، تسيير قطار آخر لحضور التوقيع على الاتفاق النهائي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، ووافقت إدارة هيئة السكة حديد على تسيير القطار امتثالاً لمطالب النقابة، وفي السياق قررت النقابة تركيب العربات القديمة لتسع أكبر عدد من الجماهير المشاركة في الاحتفال، فاتجهت الأنظار نحو (المحلي حلفا)، وتم ربط الوابور الديزل بعدد 9 عربات قديمة يقطرها في الرحلة، وبدأ التنسيق بين الجهات المعنية لإنجاح مسيرة القطار.
وانخرطت لجان المقاومة عطبرة في عمل تنظمي لتجهيز الترتيبات اللازمة لرحلة القطار، ولم تتوقف عن الاجتماعات منذ إعلان تسيير القطار، ودارت اجتماعاتها تارة مع قوى الحرية والتغيير بالولاية، وتارة أخرى مع اللجنة التسييرية لنقابة عمال السكة حديد، وأخرى في هياكلها التنظيمية، وشرعت لجان المقاومة في ترتيب الرحلة فقامت بإنشاء لجان متخصصة في الخدمات والتأمين والإعلام، ومن ذلك تم تحديد عربة داخل القطار خاصة بالكنداكات.

ما قبل التحرك
امتلأت محطة عطبرة بالجماهير منذ ظهر اليوم المحدد، وتوافد الآلاف تختلف أغراضهم بين المشاركة في الرحلة وتوديع المسافرين وتزويدهم، وشقت أصوات الهتافات جنبات المحطة وردد الثوار شعارات الثورة بذات عبقها القديم، وانفجرت حلوق الثوار بالمطالبة بالعدالة والقصاص للشهداء وهم يرفعون صورهم عالية كأنهم أحياء بين ظهرانيهم، كما انطلقت المخاطبات في المحطة منذ تجمع الثوار،وخاطبها قيادات لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير بالمدينة، مشددين على تمسكهم بالثورة وإصرارههم على تحقيق كافة مطالبها غير منقوصة.

وفي تصريح لـ(الجريدة)، قال القيادي بقوى الحرية والتغيير بالولاية د. سيدأحمد الخطيب، إن القطار يأتي في إطار دعم مطالب الثورة، وإن أول مطالبه يتمثل في القصاص للشهداء ومحاسبة القتلة، وانتفد الوثيقة التي تم التوقيع عليها، وأضاف أن الجماهير لن تتنازل عن مطالبها وستكون الحارس الأول لها، وأشار الخطيب إلى تأجيل تشكيل المجلس التشريعي، وطالب بالتعجيل في تكوينه، لافتاً إلى أن قطار الثورة ليس للاحتفال وإنما للتشديد على المطالب وتحقيقها، وقال : مدينة عطبرة أشعلت الثورة وهي أكثر مدينة تضررت من حكم الانقاذ بتفكيك السكة حديد وفصل 3500عامل، ولفت إلى أن محاسبة مرتكبي الجرائم ضد المدينة ومواطنها لن يفلتوا من العقاب، ومنهم محمد الحسن الأمين الذي قال الخطيب إنه سيحاكم في كل ما ارتكبه ضد السكة حديد حينما كان والياً، وتطرق لدور قطار عطبرة الأول في شد همة الثوار في اعتصام القيادة العامة، وأكد أن القطار الحالي مهمته الضغط باتجاه استكمال مهام الثورة وليس الاحتفال بالتوقيع، وقال إن أحد المهام التي تحرك من أجلها القطار هي إعادة تأهيل السكة حديد بوصفها أحد أعمدة الاقتصاد السوداني الرئيسية وناقل قومي استراتيجي.

لحظة البداية
أطلق القطار صافرته في تمام الثامنة مساء أمس الأول الجمعة، وتحرك من محطة عطبرة المكتظة بالحشود المودعة وآخرين لم تتح لهم الفرصة في الركوب على متن القطار، وتكون طاقم القطار من سائقين هما خالد محمد احمد النص وحسن عمر البشير ومساعدين، وعبر مفتش اليافطة بمحطة عطبرة محمود حسنين لـ(الجريدة) عن امتنانه وتشرفه بإطلاق القطار الثاني من المحطة لدعم الثورة، وأوضح أن ذلك هو دور السكة حديد الذي يمكنها تقديمه للثورة والقوار، وقال إن هنالك انطباعاً عاماً لدى السودانيين بأن السكة حديد هي لقطارات الركاب فقط، وقطع بأنهم اختاروا أحد القطارات القديمة تحديداً لإيصال رسالة لقوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري مفادها أن السكة حديد مازال بإمكانها العمل بكل طاقتها لخدمة البلاد والعمل في تنميتها وأن قطارات الركاب والبضائع من الأهمية بمكان في خارطة السكة حديد، واضاف أن المرحلة القادمة تستوجب إعادة إحياء السكة حديد ومشروع الجزيرة كاكبر مشروعين تنمويين بالبلاد حاولت الانقاذ تدميرهما، وتابع : (نتمنى أن ترجع السكة حديد كما كانت في السابق على يد الحكومة الجديدة وتنطلق رحلات القطارات من كل أنحاء السودان وتربطها ببعضها).

ومن جانبه قال سائق القطار حسن عمر البشير إنه يتمنى أن يحقق هذا القطار نفس الانطباع عن السكة حديد كما حقق القطار السابق، واعتبر الرحلة مشاركة السكة حديد في الثورة ودعمها لها، وأضاف أن كل مشاكل السكة حديد بسبب نظام الانقاذ، مشيراً إلى أنه يمكن تجاوزها بالجدية من الحكومة القادمة، وشمل مشاكل السكة حديد في الفساد الذي رعاه سدنة الانقاذ وارتزقوا من وراءه.

عثرات
في الساعة الثامنة والنصف تفاجأ ركاب القطار وطاقمه بتوقف القطار قبل محطة الدامر ببضعة كيلوهات، واتضح أن عدداً من مواطني مدينة الدامر أوقفوا القطار وطالبوا بإيجاد مقاعد لهم للمشاركة في الرحلة، وأدى الأمر إلى تطاول نقاش بينهم وبين لجان القطار حول عدم التزام مواطني الدامر بالحضور في محطة عطبرة، مما تسبب في فقدانهم للمقاعد المخصصة لهم، وبعد ساعتين ونصف تم حل المشكلة بإيجاد بعض المقاعد لمواطني الدامر المحتجين وسار القطار في سلام وسط هتافات الركاب : (الدامر وعطبرة واحد .. وما بتفرقنا مقاعد).

حفاوة شندي
وصل القطار إلى مدينة شندي في تمام الساعة الخامسة صباحاً إلا ربع، واستقبله المئات من مواطني شندي في محطة السكة حديد بالترحاب والحفاوة الزائدين، وهتفوا للقطار بالهتافات الثورية المعروفة المطالبة بتحقيق العدالة وبناء السودان الجديد، كما قدم مواطنو شندي في تلك الساعة الأولى من الصباح، أباريق الشاي للركاب في كرم يشبه المدينة وجمالها، فتدافع الركاب نحو مستقبليهم تجمعهم خيوط المحبة والمطالبة بتحقيق أهداف الثورة.

الجيلي والوفاء
وفي الثامنة صباحاً وصل القطار إلى مدينة الجيلي، كما هو مقرر، وكان في استقباله آلاف المواطنين حاملين معهم الطعام والشاي والمرطبات، وتسابق سكان مدينة الجيلي في خدمة ثوار عطبرة، وحتى أن بعضهم فاضت عيناه بالدموع عند رؤيته القطار وهو يدخل المحطة، واصطف جميع المواطنين المستقلبين في لحظة تأريخية لقراءة نشيد العلم ومن ثم انطلاق رعود الهتافات والأهازيج التي كان في مقدمتها المطالبة بقصاص الشهداء.
تحرك القطار من محطة الجيلي في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً وسط تهليلات مواطني الجيلي المودعين في وقتٍ رفع فيه بعض ركاب القطار لافتات عبروا فيها عن شكرهم وامتنانهم لكرم الجيلي، وعلمت (الجريدة) أن القطار تحول إلى سرعة القدم بعد منطقة الجيلي، حيث ركب عدد كبير من الركاب في أعلى سطح القطار كما تم في القطار السابق، الأمر الذي أدى إلى إبطاء سرعة القطار.

إصابات
وبسبب التزاحم في سطح القطار سقط 4 ركاب من السطح بعد التحرك من مدينة الجيلي، وتراوحت إصاباتهم بين الطفيفة والخطيرة، فيما نقل مصاب إلى المستشفى فوراً، كما أصيب راكب بسلك الكهرباء في عنقه ما أدى إلى إصابته بجرح طفيف تم اسعافه وفوراً وعاد إلى مقعده في القطار.

خاطر شمبات
وكان من المقرر أن يتوقف القطار في محطة شمبات في تمام الساعة الواحدة، ولكن بسبب تأخر القطار في عدة مناطق ودخوله محطة شمبات في وقتٍ متأخرٍ، قرر طاقم القطار المكوث في شمبات مدة ربع ساعة، وكالعادة احتشد الآلاف في استقبال القطاروساروا معه في مواكب جانبية حتى كوبري الحديد المؤدي إلى الخرطوم، وزغردت الكنداكات استقبالاً للقطار فيما هتف الجميع لعطبرة وقطارها بالهتافات الثورية : (يا عطبرة الطيبة يا منجم الثورات).

ذكرى القيادة
وحينما عبر القطار كوبري الحديد داخلاً إلى الخرطوم عبر القيادة العامة للقوات المسلحة، تملكت الثوار أحزان عديدة وتذكر كثيرون منهم ايام اعتصام القيادة العامة وأحداث فضه، حتى سالت دموع عدد كبير منهم، فيها انفعل العدد الأكبر وصرخوا في وجوه الجنود المتمركزين في بوابات القيادة بالمدنية وطالبوا بالقصاص للشهداء ووصفوا الجنود بأنهم خانوا الثورة وفشلوا في حماية الثوار، وكان الجنود يستقبلون انفعالات الثوار الغاضبين وشتائمهم بتلويحة النصر وشيئٍ من ابتسامة.

الوصول
وصل القطار إلى الخرطوم في الساعة الخامسة، وفي مدخل القيادة العامة من الناحية الغربية، اصطف ملايين المواطنين يهتفون في استقبال القطار بالأغاني الثورية والهتافات المعتقة بالمطالب، وتصدرت المطالبة بالعدالة قائمة المطالب، وشهدت الشوارع المحيطة بالسكة حديد من مدخل القيادة العامة الغربي وحتى موقف جاكسون اكتظاظ الملاييين المحتفلين المستقبلين، ورصدت (الجريدة) بكاء العشرات ونزول دموعهم فرحاً ولوعةً وحزناً على الشهداء وأملاً في مدنية الدولة التي تحقق العدالة والحرية والسلام.

ساعي الثورة
وقال سائق القطار خالد النص لـ(الجريدة) بعد وصول القطار ـ وهو نفسه من قاد قطار النيل إلى القيادة العامة في المرة السابقة ـ ، إن الفرق بين الرحلتين ليس كبيراً، وإنه احساس الرحلتين لديه متقارب بوجود جماهير غفيرة ومطالب ثورية يجب تحقيقها، وأكد أنه في المرتين لم يكن مجرد سائق قطار يؤدي مهمة وعمل، وإنما ثائر يفرح بفرح شعبه ويحزن لأحزانه، وأنه الآن يشارك الجماهير الفرحة بالدخول في الفترة الانتقالية، وعبر عن حزنه البالغ وألمه من فض اعتصام القيادة العامة وتأسف لذلك، ودعا قوى الحرية والتغيير في حكومتها الجديدة إلى الاهتمام بالسكة حديد والعاملين بها وتطويرها.

من داخل القطار: سيدأحمد إبراهيم
صحيفة الجريدة