التخلف والتقدم فى التصور القرآني (سورة العصر ) نموذجا
فى سورة العصر منهج متكامل من حيث البنية المعرفية والتصوارتية فى البناء الحضاري ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله عن أمر هذه السورة : لو لم ينزل الله حجة على خلقه غير هذه السورة لكفتهم ، وهذه لفتة شافعية متطورة ، ومن حق الأمة أن تفتخر بهذه القامة الفقهية والعلمية ( الشافعي ) ، كما يجب أن تفتخر بوجود هذا الكنز الإستراتيجي للأمة ( القرأن ) .
ذكر مالك بن نبي وحمه الله فى كتابه شروط النهضة وغيره من كتبه المهمة فى هذا المجال بأن الحضارة هي نتاج طبيعي لوجود الإنسان ، والزمن ، والأرض ، فلا يمكن قيام حضارة بغياب هذه الأركان الثلاثة ، ولكن ليس المطلوب هو وجود أي إنسان ، ولكن لا بد من الإنسان ( العدل ) ، والذى خرج من طور الإنسان ( الكلّ ) ، وصدق الأستاذ جودت سعيد حين قال ، هناك نوعان من الإنسان وفق القرآن ، الإنسان الكلّ ، والإنسان العدل ، فالأول هو الإنسان المتخلف ، والثانى هو الإنسان المتقدم ، وكذلك الأرض والزمن ، فكل إنسان فى الكون يعيش على مساحة معينة من الأرض ، ولكن هناك من يستفيد من الأرض ، ومن يعيش عليها بدون أن يستفيد منها ، وكل واحد من الشر يملك الزمن ذاته ، ولكن المشكلة ليست فى الزمن المتاح ، بل الإشكالية تكمن فى الزمن المفعّل ، وغير المفعّل ، ولهذا فلا بد من معرفة دقيقة أن الإشكالية الكبرى تكمن فى المنهج ، والإنسان ، فلا نهضة حقيقية بدون منهج قابل للتطبيق ، وإعداد إنسان يخرج من طور الكلّ إلى طور العدل .
إن الإنسان المتخلف ( الكلّ ) لديه خصائص أربعة :
أولا : الإنسان المتخلف عنده مشكلة فى الفهم ( أبكم ) ، أي ليست لديه إبداعات فى الحياة ، فهو صورة مكررة ، ولا يستطيع أن يعبّر ما فى داخله فضلا عن أن يبدع ، فهو أبكم كما تناولت سورة النحل في الآية السابعة والستين ، والبكم مرض عائق ، ويحتاج إلى معالجة جذرية طبيا ،ولكن الخطورة تكمن فى البكم الفكري والسياسي ،وهذه أيضا تتطلب إلى معالجات فكرية وسياسية عميقة .
ثانيا : عدم الفاعلية ، وانعدام القدرة لديه ، فهو سلبي إلى حد بعيد ، وعنده مرض خطير إسمه ( الإنتظار المرضي ) ، فلا يمكن أن يقوم بالمبادرات الفردية ، ويتحدث دوما عن الأوضاع السلبية ، والمناخات غير الإيجابية ، وليس من الممكن فعل عمل أفضل فى وجود مثل هذا المناخ .
ثالثا : إن الإنسان المتخلف يمثل فى الحياة مجرد رقم ، وإضافة فى الحياة ، فلا يمكن له أن يعمل شيئا جديدا فى الحياة ، بل هو يمثل فى الحياة عبئا ، ولهذا كان تعبير القرآن راقيا ( وهو كلّ على مولاه ) .
رابعا : يعتبر الإنسان المتخلف بلا تخصص فى الحياة ، فهو ليس من أهل التنظير ، ولا هو من أهل التنفيذ ، بل ليس لديه عمل فى أي مجال ، هو سلبي فكريا ، وسلبي تنفيذيا ( أينما يوجهه لا يأتِ بخير ) .
إن هذا الإنسان سيكون فى خارج التاريخ ، لأنه لا يملك الفاعلية ، فهو إنسان يعيش فى خارج الزمن والمكان ، ومنه هنا فلا بد من إعادة الإنسان إلى التاريخ ، وهذا يتطلب أمرين :
١- وجود منهج واضح المعالم من شأنه صناعة الإنسان المطلوب .
٢- تبنى سياسة تربوية من شأنها ، إيجاد الفرد الصالح ( الإنسان العدل ) ، ومن وراء هذا الإنسان ، التخطيط لإخراج الأمة المنتجة .
إن هذا الأمر أيضا يتطلب إلى طرح سياسة تنموية تقوم على ركيزتين وهما :
أولا : لا بد من طرح تصور صحيح للحياة ، ينطلق من مرجعية معترفة ومعتبرة من الأمة ، وهذا التصور يسمى عند العلماء المتخصصين فى البناء الإستراتيجي ( الرؤية ) ، فلا نهضة بدون رؤية حقيقية .
ثانيا ؛ لا بد من التركيز فى التعليم ، والتعليم هنا ليس فقط نقل التكنولوجيا ، ولكن التعليم المطلوب هو تعليم الناس التفكير العلمي ، فقد نجحت تجارب كثيرة فى نقل المعلومات ، ولكنها فشلت فى صناعة النهضة ، بينما نجحت تجارب أخرى فى صناعة العقول العامية ، وأنتجت نهضات صادقة .
لقد تنبه الأستاذ مهاتير ومعه الدكتور أنور إبراهيم فى ماليزيا تلك المعادلة ، وهي أن النهضة تساوى = الرؤية + التعليم الناجح ، لأن المخرجات الطبيعية لهذه المعادلة هي الإنسان ، ومن بعد الإنسان الأمة ، والدولة القوية ، ومن هنا عرف مهاتير أن التجربة التركية الحديثة ليست بعيدة عن التجربة الماليزية ، وأنهما يستطيعان صناعة نهضة من شأنها تساعد استئناف الحضارة الإسلامية من جديد .
إن الحضارة وفق سورة العصر الكريمة تتطلب فى إيحاد أمور عدة منها ، الزمن المفعّل + الإنسان العدل + العمل الصالح + الإيمان الصحيح + وجود جماعات تعمل لتفعيل الخير والحق + وجود نفس طويل يقوم على الصبر .
ليس من العبث أن يقسم الله تبارك وتعالى على الزمن ( والعصر ) ، وليس من العبث كذلك ذكر الإنسان الخاسر ، والمستثنى منه ، وكذلك تم ذكر العمل الصالح بالمفهوم القرآني ، وليس بالمفهوم الدرويشي ، وبعدها ذُكر فى السورة التواصي بالحق ، فلا تنهض أمة بدون قيم محفوظة ، ولا يمكن الدفاع عن القيم بدون مناخات الحرية ، وبعدها يكون من المنطق ذكر الصبر فى هذاالمجال .
لقد غير كثير من المسلمين المفاهيم الأساسية فى القرآن ،ومن هذه المفاهيم (مفهوم العمل الصالح ) ، فقد أصبح المفهوم الجديد بعيدا عن المفهوم القرآني الذى يحمل معنى شاملا ، وأصبح المعنى الجديد يحمل بعدا دينيا فقط فقد تم إبعاد المعاني الدنيوية من مفهوم العمل الصالح .
عبد الرحمن بشير