في ذكرى الإبادة .. ناجية إيزيدية تحكي معاناة ألفي يوم مع داعش
ترفع عباءتها قليلًا لأعلى حتى لا تعيق قدماها عن الركض بكل قوة بعيدًا عن أشخاص يرتدون عباءات سوداء، ويطلقون النار على الرجال والنساء والأطفال.
تهرب أديبة مراد ملكو، بكل ما أوتيت من قوة من جنود الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي، الذي أعلن تأسيس ما لقبها بـ”الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق”، إلا أنها لم تستطع الإفلات من الكارثة التي أصابتها مع كامل قريتها منذ عدة أعوام، عندما نزل تنظيم داعش ضيفًا ثقيلًا على العراق.
منذ خمس سنوات، كانت الأوضاع مستقرة في قرية كوجو العراقية، ذات القومية الإيزيدية، حتى اجتاحها تنظيم داعش الإرهابي ليعيث فيها الفساد، ويزيد من معاناة البلد الذي أنهكته الحروب.
بعد فترة طويلة من الصراع والقتال، أعلنت السلطات العراقية القضاء على تنظيم داعش الإرهابي في العراق، منذ عام تقريبًا، وإنهاء كابوس “الخلافة”، الذي لم يفارق حتى اللحظة، أذهان أديبة ملكو.
في ذكرى جريمة “الإبادة الجماعية”، بحق الإيزيديين على أيدي تنظيم داعش الإرهابي، تقص أديبة مراد ملكو، السيدة الإيزيدية لـ”مصراوي”، ما جرى معها وأسرتها، منذ اتخاذها سبية وحتى فرارها مارس الماضي من قبضة التنظيم.
منتصف أغسطس 2014، اقتحمت قوات تنظيم داعش الإرهابي قرية كوجو، وهي قرية صغيرة بمنطقة سنجار، جنوب جبال سنجار في محافظة نينوى.
“علمنا أنهم يتواجدون في العراق، إلا أننا لم نتوقع أن يهاجموننا، لقد كان ذلك اليوم مأساويًا”، هكذا بدأت أديبة، حديثها عن اليوم المشؤوم الذي دخل فيه التنظيم القرية.
أطلق التنظيم الطلقات في الهواء، محذرًا جميع الرجال والنساء من أي مقاومة، ومطالبهم بتسليم أنفسهم مع أموالهم وذهبهم، إلا أن الأوضاع خرجت عن السيطرة، وبدأ الإرهابيون نوبة قتل هستيرية، أزهقوا فيها العشرات بل مئات الأرواح.
تقول أديبة “لا أصدق ما حدث حينها، قتل رجال التنظيم 10 رجال من عائلة زوجي، وحتى اللحظة لا يزال 20 فردًا مفقودين من عائلته”.
في تلك الأوقات، أعلن التنظيم الإرهابي سيطرته على مدينة الموصل، بعدما لم يقابل أي نوع من المقاومة تذكر من الجيش العراقي، ما جعل رقعة التنظيم وقوته تزدادان في النمو.
اتخذ داعش من الإيزيدات سبايا، فأقدم جنوده على اقتحام جميع القرى الإيزيدية لاختطاف النساء ومن ثم بيعهن أو إهدائهن للمقاتلين.
الليلة الأولى بالنسبة لأديبة كانت الأصعب، خاصة بعدما احتجزوها مع زوجها وأطفالها داخل مدرسة في القرية.
سرعان ما فصل التنظيم الإرهابي الرجال بعيدًا عن النساء، دون أن تدرك الإيزيديات الغرض من احتجازهن أو تركهن في مكان مغلق.
يزداد القلق والتوتر في كل لحظة تمر على الإيزيديات داخل مقر احتجازهن دون أن تعرفن أي شيء عن مصيرهن، أو مصير أزواجهن وأطفالهن.
بعد أيام بدأ التنظيم الإرهابي ترحيل النساء من كوجو إلى قرية تلعفر، ليخبروهن أن رجالهن قد قتلوا، وأن لا ملاذ لهن سوى الارتماء داخل عباءة التنظيم.
يبدو أن التنقل إلى تلعفر كان مجرد البداية لما يتضح أنه “ترحال أبدي”، من مكان إلى آخر حسب رغبة جنود التنظيم.
انتقلت أديبة مرة أخرى مع النساء إلى مدينة الرقة السورية، التي اتخذها التنظيم في ذلك الوقت عاصمة له، لتواجه أسوأ كوابيسها “الاغتصاب الحلال”.
كلما مر الوقت، كلما اتسعت رقعة التنظيم حينها، حتى أنه أعلن في العام 2015 أن الرقة السورية هي عاصمته، وأنه سيتوسع في كل الدول العربية.
لا تعلم أديبة شيئًا مما يتردد في الأخبار عن سطيرة وزيادة نفوذ التنظيم، فهي محرومة من الهواتف النقالة، وأي وسيلة تكنولوجية حديثة، فكل ما عليها فعله هو البقاء صامتة، وتنفيذ الأوامر بدقة شديدة.
اقتاد التنظيم النساء إلى منزل كبيرة في مزرعة بالرقة، حيث كانت مليئة بالنساء والأطفال، لتمكث مع إيزيديات أصابت قلوبهن وجل وخوف جعلهن أشبه بمومياوات اُمتصت منها الروح.
داخل المنزل، أدركت أديبة مصيرها –تقريبًا- فلابد أن التنظيم يتخذهن “سبايا”، وهو ما بدا واضحًا في أن يستدعي الجنود كل سبعة أيام، 10 أسماء من الإيزيديات من المنزل، ويتم ترحيلهن إلى وجهة مجهولة.
جاء اليوم الموعود، وسمعت أديبة ملكو اسمها ينادى مع 9 آخريات، ليذهب بهن داعش إلى دير الزور، في قرية حقل العمر، وتوجهن بهن إلى أبو حفص الجذراوي السعودي.
يلقبونه بالأمير أبو حفص، وينصبونه والي على دير الزور حينها، إلا أن أديبة لا تبالي بتلك الأسماء المستعارة أو الألقاب، فكل ما يشغل بالها، هو مكان زوجها، ومصيرها.
مكثت أديبة في مقرها الجديد 4 ساعات، حتى فوجئت بجندي ضخم البنية يمسك يدها ويجرها بقوة ليهديها –كما أمر الأمير- إلى شيخ مغربي.
لكم تمنت أديبة أن ينفجر المكان من حولها متأثرًا بصرخاتها التي لم تهدأ، فالرعب امتلأ قلبها، وعدم تصديقها بأنها أصبحت سبية تُهدى إلى إرهابي جعلها مغيبة عن الواقع ولا تدري سوى بإطلاق صيحات لا تهدأ “كنت دائمًا وأبكي وأشعر بالخوف”.
المرأة الإيزيدية في نظر الدواعش ما هي إلا هدية متعة، يحق لهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون، الاستغلال الجسدي، خدمة زوجاتهن الداعشيات، أو حتى إهدائهن لرجل آخر لكسب رضاه.
ظلت أديبة لمدة عامين مع الشيخ المغربي وعائلته، حتى وهبها لداعشي آخر، إلا أنه قتل بعد عام واحد.
في العام 2018، بدأت الهزائم تتوالى على التنظيم الإرهابي، الذي أصبح تنكمش رقعة سيطرته، ويخسر أهم المدن التي سيطر عليها في الماضي، مثل الموصل.
الهزائم المستمرة، جعل الدواعش يتراجعون ويتنقلون بشكل مستمر من مكان وميدان إلى آخر، ويأخذون معهم النساء الإيزيديات.
الوجهة التالية لأديبة، كانت مدينة البوكمال السورية الكردية، التي قضت فيها يومين فقط، وتوجهت بعدها لبوحما، لتمكث هناك شهر تقريبًا، إلا أنه بسبب القصف المتصاعد، ظلت عملية التنقل مستمرة.
حكت أديبة ملكو، أنه في بعض الأحيان كانت تتنقل مع التنظيم من ميدان إلى آخر، هربًا من طائرات التحالف الدولي والجيش العراقي.
بعد مرور 4 أعوام، لا تزال أديبة تجهل مصير زوجها الإيزيدي، فطوال تلك المدة لم تتواصل مع أي فرد من عائلاتها، ولا تعلم عنهم شيئًا.
بدأت تظهر علامات انفراجة الأزمة، عندما تمكنت في مدن شمال سوريا أن تحصل على هاتف خلوي بشكل سري لتتواصل مع عائلاتها.
عندما توالت الهزائم على التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا، بدأ جنوده بالهرب إلى تركيا، وكانت وسيلتهم الوحيدة لجني الأموال هو بيع سبيتهم الإيزيدية.
سمح جنود التنظيم في بعض المناطق التي فقدوا فيها السيطرة لزوجاتهن بامتلاك هاتف نقال، وهو ما مكن أديبة التي انتقلت لوجهتها قبل الأخيرة في شعافة، من التواصل مع أهلها.
لم تنجح عملية الفدية التي حاول الداعشي الذي احتجز أديبة القيام بها مع عائلاتها نظرًا للقصف المستمر على المدينة، ما جعله يتخذها مع عائلته إلى مدينة الباغوز.
بدأت مرحلة أخرى من المعاناة في الباغوز، فالحصار المستمر لقوات التحالف وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” للتنظيم، جعل النساء الإيزيديات محرومات من الطعام والشراب لفترات طويلة.
قبل أيام من اقتحام الباغوز، تواصلت أديبة مع عائلتها مرة أخرى، وتمكنت أسرتها من جمع أموال الفدية، لتسليمها إلى الداعشي، ليهرب مع عائلته إلى تركيا
انتهى وجود تنظيم داعش في العراق، إلا أن معاناة الأهالي هناك لا تنتهي، إلا أن الناجين يسعون إلى تسطير مستقبل مختلف بعد الأزمة.
مصراوي