منوعات

بالصور .. شابات سودانيات يكتبن عن “شهر الأحلام” الذي غير حياتهن

تكتب ثلاث شابات سودانيات في مدونة بي بي سي عربي مواقف شهدنها خلال مشاركتهن في المظاهرات ضد الحكومة، كل على طريقتها، طوال الأشهر الأربعة الماضية.
“ما وراء الحرية”
رفاء الطيب الفاتح محي الدين (21 عاما، طالبة في كلية الطب)

رفاء الطيب الفاتح محي الدين

كانت حياتي مرسومة بوضوح ومليئة بأهداف كثيرة محددة – طبعا – من قبل والديّ.

وجدت نفسي طالبة في كلية الطب، لن أدعي أني لم أكن سعيدة بذلك، فقد سعيت نحو هذا الحلم، لكني وبعد أن أصبحت ضمن المجال الطبي عرفت مدى عدم تقدير الأطباء في بلدي، وكيف أنهم لا يأخذون حقوقهم. بدأت أقرأ عن أعمال قتل ارتكبتها الحكومة في دارفور وجنوب السودان و بدأت أكره ما يحدث. أصبحت الأوضاع تضيق. حاولت أن أغير وكنت في العشرين من عمري، حاولت أن أساعد من حولي من خلال عملي الطوعي مع عدد من المنظمات. حاولت أن أوصل صوت المظلومين. ولكن لم أتمكن من فعل هذا في مجال الطب لذا بدأت أبحث في السياسة عن الحق و الباطل، عن الصواب و الخطأ. قرأت كثيرا، وسألت كثيرا، وبحثت عن إجابات. هنا بدأت أشعر بالغضب، وانتابني شعور بأنه يجب أن أغير ما يحدث. حتى حل شهر ديسمبر/ كانون الأول “شهر الأحلام”.

في بداية ديسمبر/ كانون الأول بدأت الدعوات للتظاهر وبدأت حملات لدعم ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر، ودون أن أشعر وجدت نفسي من بين الداعين والمؤيدين للحركة المعارضة للحكومة. كان أصدقائي المقربين يخافون من النشطات السياسية فوجدت نفسي وحدي في بادئ الأمر حتى تعرفت على أصدقاء ثوريين.

كانت حربا ضد الحكومة، وضد الأهل، وضد المجتمع.

رفاء الطيب الفاتح محي الدين

نعم، صحيح أن المرأة السودانية كان لها الدور الأكبر في المظاهرات، ولكن التحديات كانت كبيرة جدا أمامنا كنساء سودانيات. كنا في الصفوف الأمامية في المظاهرات، أما في البيت فكان يجب أن أحارب مفاهيم مثل أن مكان الفتاة منزلها، وأن لا صوت لها!

كان يجب أن أصنع التغيير، كان يجب أن أكون التغيير.

بدأت المظاهرات، وكان عددنا صغيرا نسبيا. كنا عزل مقابل الرصاص والغاز المسيل للدموع. كنت خائفة، لا أنكر، لكني كنت مؤمنة جدا بهذه القضية؛ فالحرية ليست رخيصة الثمن.

في بداية الأمر كنت أهرب من المنزل كي أكون في المظاهرات، كنت أكذب على أهلي وأقول إني ذاهبة لمقابلة صديقات. كل ذلك لأتمكن من تنفس هواء الحرية ولأشعر بالأدرينالين يسري في جسدي. وبعد عدة مرات اكتشف أهلي ما يحصل، وبالتأكيد لم يعجبهم الأمر وبدأوا بمنعي تارة، وبتخويفي من احتمال الموت تارة أخرى.

طبعا لا أنسى أول مرة خرجت فيها للتظاهر. كنت لا أعرف أي شيء عن استراتيجيات الهروب أوالمظاهرات، ولم أكن أدري ما الذي سيحل بي. كنت أتصفح تويتر وقرأت دعوة للتظاهر الساعة الواحدة ظهرا، تحمست كثيرا وحفظت المكان المطلوب، وفي تمام الثانية عشرة خرجت ووصلت المكان قبل الموعد المحدد، ولكني جلست عند (ست شاي) أي بائعة الشاي بالسوداني، و انتظرت.

في تمام الواحدة بدأ الناس يخرجون من كل مكان، تفاجأت وتحمست وفجأة وجدت نفسي في وسط الموكب أهتف بأعلى صوتي وألمس أطراف الحرية. كانت من أجمل اللحظات.

ولكن لم تستمر تلك اللحظات طويلا؛ داهم رجال الأمن الموكب وأطلقوا الغاز المسيل للدموع. لم أتمكن من التنفس ولا من الهرب؛ كنت أختنق وصدري يحترق. كنت أظن أنها النهاية فأنا لم أر شيئا مثل هذا من قبل، خصوصا أن الرصاص الحي كان فوق رؤوسنا، ورأيت الشاب الذي كان يقود الموكب مصابا في رجله غير قادر على التحرك ومرميا على بعد بضعة أمتار مني.

كنا نهرب – نحن المواطنين العزل – من رجال الأمن الذين يحملون الرصاص. كم مرة نجوت من الاعتقال والتعذيب. كان الاعتقال أكبر مخاوفنا فهناك تعامل معاملة المجرم، ولا وجود للإنسانية في المعتقلات. القصص التي سمعناها من الذين خرجوا من هناك كفيلة بأن تبث الخوف في صدورنا لليال طوال ولكن هذا لم يوقفنا عن حلمنا بالحرية يوما ما.

بت أخرج كل يوم لأعبر عن آرائي فقط، وهذه أبسط حقوقي، ولكني كل يوم أواجه القمع من رجال الأمن والشرطة.

أربعة أشهر هي المدة التي رأيت فيها ذلك الجانب البشع المظلم من العالم. لم أكن أتخيل أن هذه القساوة ستواجهني حين أطالب بحقوقي ولكن ما حدث لم يزدني إلا قوة، وكل هذا من أجل الحرية السياسية، والمساواة بين المرأة والرجل والحقوق الإنسانية.

خلال هذه الأشهر تغيرت كثيرا، كثيرا جدا على جميع النواحي، وخاصة الناحية الإنسانية؛ أصبح لدي شعور أكبر بالمسؤولية تجاه الوطن، والمظلومين، وأهم شيء طبعا أني عرفت أن لدي صوتا ودورا و يمكن أن أكون جزءا من التغيير.
حفيدات الملكة النوبية أماني ريناس
فاديا خلف (مرشدة سياحية – 22 عاما)

من كان ليصدق ما حدث يوم 11 أبريل/ نيسان 2019!

يوم حار جدا ولا يحتمل، تصاعدت درجة الحرارة حتى وصلت 44 درجة مئوية. الهتاف يدوي. أصوات الشباب والأطفال والرجال والنساء تعلو، الجميع يهتف دون توقف.

وعلى بعد بضعة أمتار تجمعت آلاف النساء… النازحات، ستات الشاي (بائعات الشاي)، الموظفات، ربات البيوت، الهاربات من ملاحقات النظام ومن قمع الأهالي. كلهن يهتفن ويطالبن بالعدل والحرية والسلام والكرامة أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة.

النساء الآن يواصلن مشوار ملكات الحضارة النوبية بعد سبعة آلاف سنة ميلادية. حفيدات الملكة أماني ريناس وأماني تيري. حضارة مثل هاتين الملكتين هي ما سعت حكومة الإنقاذ (عام 1989) لطمس معالمها واستبدالها بالثقافة العربية. أنسيتم من نحن؟ ألا تشهد هذه الآثار والمعابد على ذلك؟

صبيحة ذاك اليوم أعلن الجيش تنحي الرئيس عمر البشير من منصبه بعد 30 عاما.

كان الناس في حالة ذهول؛ منهم من صدّق الخبر، ومنهم من بكى وانهار، بعضهم بدأ بدق الطبول والرقص فرحا بإعلان بيان قوات الشعب المسلحة.

سمعت الخبر وفتحت التلفاز لأرى ما حدث. القنوات الإخبارية تتحدث عن أن الرئيس البشير تنحى وأن وزير الدفاع سينوب عنه.

الأمر غريب.

قررت أن أستعد وأذهب إلى القيادة العامة، وفي الطريق فتحت الراديو انتظارا لسماع بيان المجلس العسكري المرتقب.

فاديا خلف

بدأ البيان…

أُعلنت فترة انتقالية لعامين، وحالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر. وزير الدفاع سيرأس المجلس العسكري، علما أنه مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية أيضا. أهذه حكومة مستنسخة أم ماذا؟

لم أستطع أن أمنع دموعي من الانهمار وأنا أرى الجموع في الشارع تحتفل، إنهم لا يعلمون بأمر البيان بعد.

كان خبرا صاعقا بعد هذه الأشهر الأربعة التي فقدنا فيها الكثير من أصدقائنا ممن نادوا بالحرية والعدالة.

كيف يمكن لهم أن يفعلوا هذا بنا مرة أخرى؟

في تلك اللحظات تذكرت ضربهم وتعذيبهم وإساءتهم لنا، فنحن – كما يقولون عنا – متفتحو الذهن ونفكر بطريقه أخرى. قالوا لنا إن الحرية التي نريدها لا يمكن تحقيقها!

تذكرت عندما اعتقلت وأخريات لارتدائنا البنطال في شوارع الخرطوم بعد خروجي من العمل مرتدية بزة رسمية، منذ متى كان البنطال جريمة؟ حدث ذلك قبيل عيد الأضحى المبارك عام 2018، ومن المعروف أن هذه الحملات، التي تسمى “حملات النظام العام”، تتم بكثرة وشراهة من قبل مليشيات الأمن قبل العيد؛ البعض يعتقد أن هذه الحملات هدفها جني المال؛ يعتقد الأمن أن هذه وسيلة سهلة للحصول على المال عن طريق الغرامات والابتزاز لذا يستهدف النساء على وجه الخصوص لأن وضعهن حساس قليلا في السودان؛ أي أنه في حالة تعرضت امرأة لأي مساءلة قانونية أو ارتبط اسمها بأي شيء يتعلق بالشرطة والمحاكم فيكون مدعاة “للعار”. أتذكر انه تم تهديدنا وتخييرنا بين عقوبتين: إما الجلد، وإما السجن وأحيانا كلتا العقوبتين!

تذكرت النساء اللاتي يبعن الشاي والقهوة في شوارع الخرطوم، ونظرة الصمود التي تعلو وجوههن رغم البطش من قبل القوات الأمنية واعتقالهن و إيداعهن في السجون فقط لأنهن نساء. هولاء النساء لا حول لهن ولا قوة، يكابدن العناء لصنع لقمة عيش حلال، وبالنسبة للأمن فهن هدف سهل جدا. وللأسف لايوجد قانون يقف مع المرأة إن تعرض لها أحد أفراد النظام الذي يهيمن على كل شي!

تذكرت بأن هذا النظام على مدى ثلاثين عاما كان يقتل.

تذكرت الكثير وبكيت.

عند وصولي، بدأت أبتسم شيئا فشيئا لرؤيتي هؤلاء الشباب عازمين على مواصلة الاحتجاج، قالوا إنهم غير راضين على ما حدث.

الشعب يشتعل مرة أخرى و يهتف: “زي ما سقطت تسقط تاني!”

الشعب يريد إسقاط النظام العسكري الذي لم يكمل ساعات في الحكم ! ياللعزم!

أفواج من النساء في كل مكان أحضرن الطعام والماء للمعتصمين وهتفن وغنين.

الساعة تشير إلى التاسعة مساء والجماهير الشعبية تردد بأنها ستكسر حظر التجوال، وأن هذه البلاد لهم ولن يحكمها مجرم آخر. كانت شعورا عصيبا على الجميع ومشوار 30 عاما من القهر.

لابد من أن ينتهي كل ذلك.

هذا الحراك مسني في أعماقي، علمني الصبر أكثر من ذي قبل، وضرورة التحمل، وأقنعني بأن التغيير ليس سهلا وأن لكل شيء ثمن.. قد ندفع الثمن من وقتنا، أو أموالنا، وأحيانا من أرواحنا.
“عدت لأرسم شهداء بلدي”

أثناء الليل، وبحذر شديد كنت أذهب ورفاقي إلى منازل الشهداء في الخرطوم حاملة علب البخاخ والألوان – كانت هذه كل أسلحتي للمشاركة مع غيري من أبناء وبنات السودان في الثورة السلمية.

استأذنت عائلات الشهداء الذين قدموا أرواحهم من أجل وطنهم طوال السنين الماضية، لأرسم صورهم على جدران بيوتهم تخليدا لذكراهم – عشرون رسمة، ثلاث منها كانت لنساء.

أصيل مع والدة سارة عبد الباقي

منذ سنوات وأنا مقيمة مع أسرتي في قطر، وعندما بدأت الثورة في السودان تابعت الجماهير وهي تخرج يوميا مطالبة بالحرية والعدالة، شعرت أنه من واجبي – كسودانية – المشاركة في تلك الاحتجاجات، وقررت السفر في زيارة قصيرة للبلد.

لاحظت أنه لم يكن هنالك مظاهر فنية حقيقية للمساهمة في دعم الثورة، باستثناء بعض الشعارات التي كتبت بطريقة عفوية وعشوائية، وحتى هذه تعرضت للتشويه والإزالة. يكتب الثوار (الثورجيون كما نقول في السودان) عبارات على الجدران يرددها المتظاهرون، أو آيات من القرآن، أو جملا قالها ثوار في بلاد أخرى، ليأتي رجال الأمن ويحاولوا الكتابة فوقها، لتبقى آثار بشعة على الجدران. أراها حربا على الجدران بين عناصر الأمن والثوار.

صحيح أن المتظاهرين حملوا لوحات ويافطات، وكان الناس يصورونهم فتظهر العبارات والرسائل التي يود الثوار إيصالها، لكن هذه اليافطات غالبا ما ترمى أو تستخدم لفترة قصيرة، أما الحيطان فيمر قربها آلاف الناس سواء أكانوا من المعارضة أو الداعمين للحكومة.

كما لاحظت محاولات فنية أخرى مثل فن “ستانسل” (stencil art)، إلى جانب أعمال فنية أخرى ظهرت على صفحات السوشال ميديا(مواقع التواصل الاجتماعي) مصممة عبر الكمبيوتر مثل أعمال مصطفى النصري، ووائل السنوسي، والجيلي هجو، وغيرهم.

عدت إلى السودان لأنفذ الفن الذي أعشق: فن رسم الشوارع أو الغرافيتي، وكان ذلك لا يخلو من الخطورة، حتى أنه قد يؤدي إلى الاعتقال.

كنت أرسم على الجدران منذ عام 2013، لكني كنت أرسم حينها شخصيات سودانية معروفة مثل الشاعر الكبير محمد الفيتوري، المغني والموسيقي محمد وردي، الشاعر الطيب صالح، وعائشة الفلاتية أول مغنية يذيع الردايو أغانيها.

عندما كنت أرسم تلك الشخصيات الراحلة، كنت أشعر بطاقة إيجابية، رغم أني كنت أرسم مغنيين أو شعراء توفوا منذ زمن، أما تجربتي الأخيرة في رسم الشهداء فكانت تجربة حزينة لنا كفريق. بداية كنا متحمسين كثيرا للمشروع، أردنا أن نقدم شيئا للوطن. مررنا بمشاكل كثيرة أثناء عملنا اليومي، كما توترت كثيرا خاصة بسبب المخاطر على سلامة أفراد الفريق. لكن أصعب ما في الأمر كان زيارة بيوت أهالي الشهداء. كنا نعزيهم، ونمضي ساعات قليلة عندهم.

شعرنا بتوتر وحزن شديدين لمدة شهرين تقريبا.

كانت تجربة مختلفة تماما عما سبق؛ فعادة كان التركيز علي كامرأة، كرسامة غرافيتي ترسم على الجدران وهو مشهد غير مألوف في السودان. أما هذه المرة فلم يكن التركيز على تنفيذي الفني للعمل، كان التركيز على الشهداء أنفسهم.

الآراء الواردة هنا تعبر عن رأي المدونات ولا تعبر عن رأي بي بي سي.

 

 

BBC