(القرآنيون) فرقة زائغة
تتنوع مظاهر الهجمة المعاصرة على سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك دعوة بعض الزائغين للاكتفاء بالعمل بالقرآن الكريم واستخدام العقول في فهمه واستقلال كل شخص بفهمه وما يصل إليه!! ويأتي في أول تلك الفرق المنحرفة المعادية للإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام الجماعة المعروفة بــ (القرآنيين) أي أنهم يكتفون بالقرآن فقط دون الحاجة إلى السنة النبوية الشريفة التي هي وحي الله تعالى.
وهذه الطائفة المسماة بالقرآنيين (وفي التسمية تجوّز !! إذ لو كانوا يعملون بالقرآن الكريم حقاً لعملوا بسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإن القرآن الكريم قد أوجب ذلك)، هذه الطائفة ظهرت قبل فترة في شبه القارة الهندية، وتوجد بحوث ودراسات ومؤلفات في ذلك من أبرزها كتاب (القرآنيون في شبه القرارة الهندية) لخادم حسين إلهي بخش، وقد أجابت الدراسة عن شبهاتهم بطريقة علمية والكتاب متاح على الشبكة ..
وقد كانت رسالتي للدكتوراة في موضوع: نسخ السنة للقرآن الكريم وتخصيصها وتقييدها، وجمعت فيه نماذج تطبيقية بعد الدراسة النظرية بما يبيّن أنه لا يستغنى بفهم الدين عن سنة خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام .. والكتاب مطبوع ومتاح على الشبكة.
وفي الفترة الأخيرة تجددت الدعوة الخبيثة من هذه الطائفة في مجتمعنا، وتشتد الحاجة إلى التصدي لهذه الفرقة حيث إن بعض الدعوات من إلحادية ونصرانية ورافضية ويسارية وليبرالية وعلمانية وغيرها تجتمع معها في ما تدعو إليه وهو إسقاط السنة النبوية!! حتى يبقى المسلمون بلا دين!!
وتبرز مظاهر هذه الدعوة من هذه الجهات المتنوعة التي تجتمع لغاية واحدة في الطعن القبيح على كتب الأحاديث كصحيح البخاري ومسلم التي تلقتها الأمة بالقبول، وغيرهما من كتب السنة التي روت أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وفق المنهج العلمي المعلوم في أسانيد الأحاديث وعلم المصطلح والجرح والتعديل.
وقد وجدتُ أحد المجاهيل هؤلاء يلبّس على بعض الرجال والنساء في أحد المواقع الالكترونية، فوجّهت له أسئلة جعلته يهرب بعد أن توقّف، فوجدته يقول لهم عليكم بالقرآن فقط ودعوا السنة واستخدموا عقولكم وقلوبكم لتفهموا معاني القرآن الكريم.. فقلتُ له صف لنا العقل الأنموذجي الذي يصحّح ويفسّر ويرد ويقبل، وقلت له إذا اختلف اثنان أو خمسة أو تسعة في أمر فعقل من الذي يتبع؟! وقلت له أثبت لي عدد الصلوات وما يقرأ فيها وعدد أشواط الطواف وأنصبة الزكاة من القرآن الكريم فأعياه ذلك، فلزم التنبيه بالحذر من هذه الدعوة التي مؤدّاها ترك الإسلام وشريعة رب العالمين وطاعة الهوى والشياطين والانسلاخ والخروج والردة عن الدين الذي ختم الله به الأديان.
إن إعلاء شأن النصوص الشرعية وهي الكتاب والسنة وهي وحي الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله شأن المؤمن الموفق، وهي صفة من أراد الله تعالى له التوفيق والنجاة والسعادة في الدارين، ولا يقلل من شأن نصوص الوحي (الكتاب والسنة) إلا غارق في الجهل أو منافق، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول …) وقال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) وقال تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء)، ومن حُرِمَ ذلك ابتلي بزبالات الأفكار، وإن الله تعالى قد أوجب على عباده الاستجابة لأمره وأمر رسوله، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..)، والاستجابة للرسول تكون بالعمل بسنته عليه الصلاة والسلام، وإن من يدعو الناس للتحاكم للعقول وتقديمها على النصوص الشرعية من الأحاديث النبوية فإنما يدعوهم لاتباع الهوى، قال الله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ..).
ومن لُبّس عليه بتقديم العقل على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: إن العقل السليم الصريح لا يخالف النقل الصحيح، وإن العقل تابع للنصوص الشرعية، ونطالب هؤلاء (الأغمار) أن يوردوا لنا أمثلة لتعارض العقل مع النصوص الشرعية، فإن الشريعة جاءت بما تحتار وتندهش وتنبهر له العقول، ولم وتأتِ بما تحيله العقول وتراه مستحيلاً، ثم عقل من الذي يقدم على النصوص؟! أيا ترى هو عقل الجهمية شيوخ المعتزلة وأساتذتهم؟! أم عقول المعتزلة الذين تمجدهم؟! وقد اختلف المعتزلة فيما بينهم إلى فرق وطوائف عديدة!! فهل نأخذ بعقول المعتزلة البغداديين أم المعتزلة البصريين؟! أم هو عقل الليبرالي أم الرافضي أم الحداثي؟!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بيِّن قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما عُلم أنه حق لا يعارضه إلا ما فيه اضطراب واشتباه، ولم يُعلم أنه حق، بل نقول قولاً عاماً كلياً، إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلاً على أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معاني متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سفسطائية لا براهين عقلية).
وقال ابن قيم الجوزية: (وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله، كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت لها من باطل وأميت بها من هدى وأحيي بها من ضلالة، وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين الشيطان).
وقال أيضاً: (إذا تعارض النقل وهذه العقول أُخذ بالنقل الصحيح ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام وحطت حيث حطها الله وأصحابها).
وقد حكم الإمام الشافعي ــ الذي ذكرته في مقدمة مقالك ــ وحكم غيره من علماء المسلمين على المعتزلة ــ وقد سموهم أهل الكلام ــ في دعواهم تقديم العقل على النقل:
قال الشافعي: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ــ ما خلا الشرك بالله ــ خير من أن يبتلى بالكلام) انتهى.
وقال الشاطبي المالكي: (لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله، وهذا هو ـ يعني عدم تقدم العقل بين يدي الشرع ــ مذهب الصحابة وعليه دأبوا وإليه اتخذوا طريقاً إلى الجنة فوصلوا).
والنقول في هذا عن علماء الإسلام على مر العصور كثيرة جداً، وذلك لإدراكهم خطورة هذا المذهب الذي يؤدي إلى التخلي عن الشريعة وتركها، ونفي ما دلت عليه النصوص تحت شعار: (مخالفتها العقل)، وقد كان تقديم العقول على النصوص في الأمم السابقة سبباً جليّاً في معاندة الكثيرين لرسل الله عليهم الصلاة والسلام كما قص الله تبارك وتعالى علينا ذلك في كتابه الكريم، بل لأجل ذلك رفض إبليس السجود لآدم فترك النص وأبى واستكبر بدعوى الأفضلية، فقاس قياساً فاسداً استحق بسببه اللعنة.
إن سنة النبي عليه الصلاة والسلام تخصص عام القرآن الكريم وتبين مجمله وتقيد مطلقه بل وتنسخ محكمه، وتأتي بأحكام لم ترد في القرآن الكريم وتأتي بأحكام مؤكّدة لما جاء في القرآن الكريم.. فلم يكن لينطق المصطفى عن الهوى، بل هو وحي أوحاه الله إليه.. ألا فليتوقف المتطاولون عن هذه الشنشنة، وإلا فليبشروا بقول الله تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).
يجب أن تتضافر الجهود لمواجهة هذه الفرق الزائغة التي تلبّس على كثير من الناس في مجتمعنا.. وذلك بالبيان العلمي.. والحجج الشرعية، وهو شرف لا يوفق له إلا الموفّقون.
د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة
جزاك الله خير ونفع بك