منوعات

ما سرُ قوة التحمل التي يتمتع بها الأبطال الرياضيون؟

الركض لمسافات طويلة، مثل ماراثون من 246 كيلومترا، يستلزم لياقة بدنية غير عادية، لكن مهما كان التدريب شاقا،

فإن نجاح أي بطل رياضي يتوقف بشكل كبير على قوته الذهنية.
في الساعات الأولى من ليلة قرب نهاية سبتمبر/ أيلول، وفي طريق بين مدينتي أثينا وإسبرطة اليونانيتين، تقاطر العداؤون وقد استبد التعب بهم تحت وقع مطر غزير وهم يأبون إلا أن يبلغوا غاية مضمار يمتد لـ 246 كيلومترا.

إنهم يجتازون ما يعرف بماراثون إسبرطة الطويل والذي يبدأ فجرا في كنف جبل الأكروبوليس في أثينا منتهيا بإسبرطة. وفي الحدث السنوي يقطع العداءون رحلة كان قد قطعها أحد رسل الإغريق القدامى ويدعى فيديبيديس طيلة يوم ونصف لاستدعاء جنود إسبرطة. وقد خلد التاريخ ذكرى فيديبيديس بمضمار شهير قطع فيه مسافة 42 كيلومترا من خليج “ماراثون” إلى أثينا تاركا للرياضيين إرثا أسطوريا.

وكانت أول مرة يجري فيها السباق السنوي عام 1983، وأنهى الفائز الدرب في 20 ساعة و25 دقيقة، ومن يومها لم يكسر أي عداء الرقم القياسي رغم المحاولات المستمرة.

وخلال السنوات الأخيرة، زاد الإقبال على الماراثونات فائقة الطول، فيما يعكف الباحثون والعلماء على فهم الكيفية التي يتمكن بها جسم بشري من اجتياز ظروف غاية في الصعوبة.
وغني عن القول إن المشارك بماراثون كهذا يعدو لمسافات هائلة، فكيف لإنسان أن يتحمل أمرا كهذا بما ينطوي عليه من صعوبات بدنية وذهنية؟ وما السبل التي يلجأ إليها عداؤون للإبقاء على سعيهم في المضمار ومواصلة الركض؟

دين كرنازيس كان من زمرة المتسابقين بماراثون إسبرطة هذا العام والذي زادته صعوبة عاصفة غير متوقعة. وهذه هي المرة الثانية التي يخوض فيها كرنازيس هذا الماراثون. وقد صادفته بداية صعبة فضلا عن إصابته أعلى الفخذ جراء حادث سير.

يقول كرنازيس إن المرء لا يدرك مدى صعوبة الأمر إلا وقد استبد به الألم من هامة رأسه إلى أخمص القدم، عندها لا يعول إلا على الجانب المعنوي، “إذ يشعر الرياضي بالإحباط ويتباطأ الخطى. ولكنني أمضي قدما رغم الصعاب، وحتى إن لم أقو على السرعة أواصل الحركة وليس إلا أن أدفع نفسي دفعا مواصلا السير”
يستقصي مارك بيرنلي الخبير الفسيولوجي بجامعة كينت الأساس العلمي وراء سرعة العداء في سباقات مختلفة بدءا من العدو لمسافات قصيرة وحتى الماراثونات الطويلة جدا.
يشرح بيرنلي متحدثا لمبادرة كراود-ساينس وجود ثلاثة عوامل يتوقف عليها نجاح العداء في اجتياز المسافات الطويلة، أولها قدرة الجسم على الاستفادة من الأكسجين خلال الجهد الشديد، وثانيها السرعة القصوى التي يمكن للعداء بلوغها دون تراكم حمض اللاكتيك في جسمه، وثالثها مدى الاستفادة القصوى من وقود الجسم قبل استنفاده.

ويضيف: “بتوافر العوامل الثلاثة معا يمكن للعداء اجتياز الماراثون بالسرعة المطلوبة”.

والرقم القياسي العالمي لاستكمال الماراثون العادي يتجاوز حاليا الساعتين بقليل، فهل يمكن للعدائين إنهاء الماراثون في وقت أقل؟ بينما يرجح أن يتمكن أحد الأبطال مستقبلا من كسر حاجز الساعتين يشير بيرنلي إلى أن الجسم البشري سيأتي آجلا أو عاجلا إلى حد سيتوقف عنده.

ويقول: “يستمد جسم الإنسان طاقته بإحدى طريقتين، إما عبر ما يعرف بالتمثيل الغذائي الهوائي بالاستعانة بجزيئات الأكسجين في الهواء، أو بالتمثيل اللاهوائي عبر عمليات نقل الطاقة بخلاف الأكسجين”. ولا يمكن للجسم البشري استنفاد الطاقة خلال العدو الماراثوني بنفس طريقة العدو القصير السريع لاختلاف سبل استنفاد الطاقة بينهما.

وطبعا يركض عداء الماراثون الفائق بسرعة أبطأ كثيرا عن أبطال الماراثونات العادية، فالعداؤون ينتهون من الـ42 كيلومترا الأولى من السباق في غضون ثلاث إلى أربع ساعات وبعد ذلك يكون أمامهم قرابة خمسة أمثال تلك المسافة، أي خمسة ماراثونات أخرى.

ويقول بيرنلي: “تعتمد أقصى درجات التحمل على الحد مما يلحق بالجسم من أضرار خلال ذلك الحدث. في سباقات الخمسة آلاف والعشرة آلاف متر عدو، كثيرا ما نتحدث عن أهمية بلوغ سرعة معينة والحفاظ عليها، أما في سباقات التحمل القصوى فالهدف الأساسي هو استكمال المضمار”.

ويعني ذلك عمليا تغير السرعات بين مرحلة وأخرى في الماراثون فائق الطول بينما يسعى العداء “لمواصلة العدو بأقل جهد ممكن وبأكثر توفير للطاقة”، حسبما يقول بيرنلي.
فازت الكينية ماري كيتاني بماراثون نيويورك بإنهائه في ساعتين و22 دقيقة و48 ثانية – بزيادة قدرها 17 ثانية فقط عن الرقم القياسي لمارغريت أوكايا عام 2003
مدى التحمل الذهني

وبالنسبة لكثير من الرياضيين تمثل قدرة الذهن على التحمل المحك الرئيسي في المضمار.

وبالعودة إلى اليونان، شوهد كرنازيس وهو يجهد بصعود جبل في الظلام تحت وقع أمطار ثقيلة. وكعداء خبير بالسباقات الطويلة، لا تغيب عنه الأهمية القصوى للقدرة النفسية على التحمل حتى يستطيع أن يدفع بقدم تلو الأخرى.

ويقول: “تأتي لحظات تشعر فيها بقوة هائلة وكأنك قادر على مواصلة الركض إلى الأبد، ثم سرعان ما يتبدل الحال وتشعر أنه لابد من التوقف لشدة الألم وتكاد لا تقوى على المضي خطوات أخرى، ثم تدفع بنفسك مجددا كاسرا هذا الحاجز بطاقة جديدة ومتجددة”.

ولا شك أن العدو لمسافات طويلة يستلزم طاقة ذهنية ومعنوية هائلة، وهناك من الرهبان البوذيين في اليابان من يركضون ألف ماراثون لألف يوم سعيا للاستنارة الداخلية، وهناك أيضا ما يعرف بسباق “تخطي الذات” حيث يركض المتسابقون ثلاثة آلاف ومئة ميل حول بناية واحدة.

تقول كارلا مايين، الخبيرة النفسية الرياضية بجامعة سانت ماري بلندن، إن ثمة أدلة على تمتع مجتازي اختبارات التحمل القصوى بمستويات أعلى من تحمل الألم، مضيفة: “لا نعرف تحديدا ما إذا كانت قدرتهم على تحمل الألم ناتجة عن تحديهم لأنفسهم من خلال تلك الاختبارات أم أنهم يولدون بهذه القدرة”.

وتشير أبحاث إلى أن نحو نصف مجتازي الماراثونات الفائقة يمرون بتغيرات عقلية كبيرة، إذ تقول مايين: “قد يشعرون بتشوش وتخبط ما، ومع ذلك الأمر المميز هو تلك القدرة على تنظيم إيقاعهم الداخلي”.

وهذا أمر يدركه كرنازيس تماما، إذ يعقب على ماراثون إسبرطة قائلا: “في النصف الأول من المضمار يعدو المرء بقدمه، أما في نصفه الآخر فبذهنه. في لحظة ما من السباق يبلغ الألم غايته ويتملكك تماما فلا يمكنك إلا أن تقر بألمك الجم، وبأنه لا مناص منه وأن عليك أن تقبل به”.

وحين يستبد الإنهاك بالجسم، هل من سبيل لمواصلة الدفع وتخطي الحدود؟
روب كرار يتجاوز خط النهاية ليفوز بماراثون ليدفيل الطويل في زمن قدره 16 ساعة وتسع دقائق و31 ثانية

تقول مايين إن مفتاح ذلك هو الاستعداد المسبق، بالتفكير قبل السباق في الخبرات السالفة والتعلم منها حتى يكون المرء مستعدا للتجاوب مع ما سيختبره قبل أن يحدث.

وخلال السباق نفسه، وبينما يلح عليك ذهنك بالتوقف لشدة الألم، عليك إلهاء نفسك والتفكير في أمر آخر، إذ تقول: “ربما تفكر في الحاجة إلى المزيد من الغذاء، أو تفكر في كيف ستكافئ نفسك بعد انتهاء السباق”.

كما تقترح الاستعانة باستراتيجيات فعالة لتنظيم الإيقاع الذهني خلال السباق، مثل الحديث التحفيزي للنفس أو الاستعانة بطرق الاسترخاء.

وتقول مايين إنه أيا كان ما تختاره من وسائل، فعليك التدرب عليها مسبقا، وهكذا حين تبدأ الشعور بالتعب يكون بمقدورك استعادة حالة أكثر استقرارا.
الاستعداد بالنوم

ولا شك أن الشعور بالخوف والحرمان من النوم من الصعوبات الجمة التي يواجهها من يخوضون سباقات تستمر خلال الليل أو عدة ليال. وقد وجدت دراسة حديثة أن معظم العدائين يحاولون النوم ما أمكنهم قبل خوض سباق طويل بقضاء ساعات نوم أطول ليلا وخلال النهار.

بل إن بعض الرياضيين البارزين يأخذون قسطا من النوم خلال السباقات الطويلة، ففي السباقات التي تمتد لأقل من 36 ساعة، ومنها ماراثون إسبرطة، يعمد أغلب العدائين لمواصلة المضي قدما طيلة المسافة دون نوم، وفي السباقات التي تمتد لأكثر من ليلة يعمد العداؤون لأخذ قسط يسير من النوم مرة أو أكثر بواقع ما بين عشر دقائق و30 دقيقة للمرة، وأغلبهم يؤثرون النوم ليلا بإحدى محطات التوقف خلال المضمار حيث يتلقون الغذاء والماء.

وقد وجد أن لفترات النوم الاستراتيجي فائدة، فهناك دراسة شملت العدائين المشاركين في مضمار تور دي غيانت – وطوله 330 كيلومترا بجبال إيطاليا – وأظهرت أن الإرهاق والضرر العضلي كان أقل لدى من ناموا خلاله، مقارنة بمن ركضوا مضامير أخرى طولها نصف تلك المسافة دون نوم. ووجد الباحثون أن العضلات كانت بمأمن أكثر كثيرا بانتهاج سرعة أبطأ والنوم لفترات وجيزة خلال السباقات الأكثر طولا.
أحد العدائين وقد استلقى على الأرض بعد إنهاء ما يعرف بماراثون الرفاق في جنوب أفريقيا وطوله 89,2 كيلومترا ويعد أحد أصعب الماراثونات الطويلة في العالم

وها قد اقترب خط النهاية بالنسبة لـ239 من بين 381 عداء وصلوا إلى إسبرطة، ليس بينهم كرنازيس إذ لم يتمكن من إنهاء السباق. ويقول: “لم استطع بعد 24 ساعة من المطر، وللأمانة أشعر بارتياح.. لم يكن من المضمون أبدا استكمال السباق، وكم احترم كل من شارك فيه”.

وعند خط النهاية ومع السعادة البالغة، هناك شعور بمدى الكلفة البدنية الباهظة للحدث، فبعض الرياضيين تساقط على الأرض، ومنهم البريطانية كات سيمبسون التي حملها المسعفون. فخوض سباق كهذا هو اختبار لأقصى إمكانيات المرء والقدرة على إرجاء الانهيار إلى ما بعد خط النهاية.

تتابع دورا بابادوبلو، جرّاحة العظام والمستشارة الطبية الرياضية بمركز إعادة التأهيل الطبي الدفاعي بهادلي كورت بالمملكة المتحدة، عدائين منذ عشر سنوات وتقول إن أغلب الإصابات تتعلق بالقروح والشد العضلي وإصابات عضلية أخرى.

ورغم التكلفة الجمة لتلك الرياضات القاسية بالنسبة للجسم، أظهرت أبحاث قدرة الجسم على تجاوز محنته بسرعة، إذ تقول بابادوبلو إن دراسة حديثة أجريت على عدائي ماراثون إسبرطة أظهرت أن دم العدائين عاد خلال أيام لحالته الطبيعية بعد أن كان أشبه بحالة من قاربوا الوفاة بعد خوضهم السباق مباشرة.

وبالنسبة لسيمبسون وغيرها ممن أنهوا المضمار فقد انتهى السباق هذا العام، وهي تقول إنه “أشبه بحلم، فبعد 70 ميلا ظننت أنني سأتوقف بسبب الظلام والعواصف الرعدية!”.

BBC