“زواج النظرة الأولى” في الدنمارك .. الشك والريبة وغياب الرومانسية
يسمى هذا النوع من “التزويج” التقليدي جداً في الدنمارك “توفيقا بين شريكين”، وتحاربه القوانين الاجتماعية، ويعتبر مثار جدل لسنوات عند التعاطي معه في البيئات المهاجرة تحت عنوان “منع الإجبار على الزواج”.
يشارك في تجربة هذا الزواج محللون نفسانيون ومرشدون اجتماعيون وقساوسة وأمام ملايين المتابعين في حلقات تلفزيونية تُشاهد أسبوعا بعد أسبوع. وبعنوان لافت “زواج من النظرة الأولى” يخوض الصحافيون، معدو البرنامج في دورات بث متتابعة، والمتخصصون في العلاقات الزوجية، في اختيار التوفيق بين طالبي زواج، من خلال إرسال طلباتهم التي تفرز وتدرس لتتوافق مع شخص آخر.
يجري الاتصال بالشخص المقبول هاتفيا ليبلغ: تمّ اختيار عروسك، تجهّز للزواج بعد أيام. يقوم الرجل حينها، وبعد صمت وعدم إخبار أحد بخطوته أنه سيتزوج بعد يومين. تُجرى التحضيرات كلها كأي زواج آخر، من اختيار فستان العرس إلى الحفلة.
كواليس التحضير للزواج تذكرك تماما بـ”العرس العربي” التقليدي، بل تبلغ تقليديته أن أيا من العروسين لا يدري من سيقف أمامه ليردد أمام موظف/ة قبوله بمن قابله قبل ثوان ليكون شريك الحياة “على السراء والضراء”.. ولم يصادف بالطبع سوى قلة قال أحد الشريكين “لا”.
ملايين المشاهدين
مهمة برنامج “زواج من النظرة الأولى”، الذي تبثه هيئة بث عام في القناة الرسمية، دي ار، تزويج الشريكين لمدة 5 أسابيع، ليقررا مستقبل هذا الزواج، بعد رحلة مشتركة، ولنقل إنه خليط بين “أسبوع عسل”، في خارج البلد، والتعرف إلى بعضهما فور قبلة الزوجين، بعد دقائق من التقاء النظرتين. لا أحد من الطرفين يعرف حتى شكل الآخر قبل الالتقاء، فلا نظرة حب، ولا علاقة سابقة، ولا حتى علاقة جنسية تجمع بين الزوجين أحيانا، وتلك قصة أخرى سيكشف البرنامج كم هي مدمرة للعلاقة الزوجية بين شريكين لم يريا بعضهما مسبقا.
لتسهيل علاقة زوجية بين شريكين، والشهود هنا ليسوا مجرد أسرتين وأصدقاء، بل جمهور مواطنين كامل يتابع عبر الشاشة ما يجري بين الزوجين، يشرك المنتجون في القناة الرسمية، أطباء نفسانيون ومتخصصون في علم الجنس، وقس متخصص في التوسط بين الأزواج. مهمة هؤلاء الخبراء، الجاهزون لتلقي اتصال فردي، وثنائي في جلسات بين الشريكين، أن يذللوا العقبات التي تنشأ، ولكسر “الصمت” بين طرفين لا يعرفان بعضهما بعضاً. فبعد إتمام مراسيم الزواج، بحضور الأسرتين والأصدقاء، يُرسل الشريكان في رحلة مشتركة، أغلبها إلى خارج البلد، وخصوصا بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، وفي الأثناء لا بد أن يتفق الشريكان بعد العودة إلى البلد على حلول وسط، وتنازلات، حول من ينتقل إلى من خلال الأسابيع المتبقية من الزواج، لاستمرار تجربتهما وتقرير ما إذا كانا سيمضيان العمر سوية أم يتوقف أحدهما.
المثير في “زواج من النظرة الأولى” أن علاقة الحب التي سرعان ما تنشأ من طرف تجاه آخر، في العلاقة الزوجية، لا يبدو أنها متبادلة، بسبب تقليدية هذه الزيجة، بحسب ما يكتشف محللون نفسانيون ومرشدون اجتماعيون، ويؤدي ذلك إلى حالة نفور بين الطرفين. وأحيانا ينشأ هذا النفور لغياب حديث الزوجين لفترة سابقة على الزواج، وخصوصا بغياب “فترة الخطوبة” للتعرف إلى هوية وشخصية الشريك، ويسود صمت بينهما فيما تبوح مثلا الزوجة لأحد المشرفين على زواجهما أنها “غير معجبة بهيئته ولحيته”، وهي غير قادرة على قولها صريحة لرجل ما تزال تعتبره غريبا عنها. مثل تلك الأمور التي يراها المحللون النفسانيون “بسيطة” يجري التغلب عليها بإعطاء الطرفين أدوات تعاون وصراحة، للتغلب على المعيقات. ورغم ذلك، ليس دائما ما تنتهي التجربة نهايات سعيدة في الأيام الأولى، فيختار أحد الطرفين أن يتقوقع على نفسه، أو أن يختار الشريكان بعد العودة إلى بلدهما العيش كزوجين في نهاية الأسابيع، رغم أن الشرط يقول بعيشهما طيلة فترة التجربة كزوجين حقيقيين.
لا مواعدة
غياب الرومانسية، وهو بالأصل ما يتسم به برنامج أصبح في موسمه الخامس، يثير المختصين والمتابعين في شأن تطور العلاقات الإنسانية، وخصوصا شخصين بحثا عن “مواعدة” لأجل إيجاد الحب. فقد تجد، إن في موسمه الخامس حاليا أو مواسمه الأربعة السابقة، من لم يقابل في حياته شخصا من الجنس الآخر، لا حبا ولا مواعدة ولا جنسا، وقد تجد أشخاصا تزوجوا سابقا وانهار زواجهم، وتجد جامعيين وجامعيات ممن لم يخوضوا تجارب في حياتهم، وكل هؤلاء بخلفيات اجتماعية وطبقية مختلفة يسعى القائمون على البرنامج إلى اكتشاف ما يجري في حياة من يتزوجون بشكل تقليدي، أو بدون أن يلتقيا مسبقا. فمشاكل كثيرة تنشأ بين الأزواج التقليديين في السعي لأخطر ما يدمر العلاقة بـ”محاولة إرضاء” متبادلة. وبشكل صريح وصادم يكشف أيضا مثل هذا الزواج التقليدي وأمام المشاهدين، كيف أن بعض الرجال يسيطر على أدمغتهم سعيهم للحصول من الزواج على الجنس ليس إلا، فيغيب الثناء والإطراء والتفهم والمودة والحب.
وككل زواج في الواقع المعاش تثار أيضا هواجس “الشك والريبة” من الأبناء السابقين والأصدقاء وأفراد الأسرة، إن كان فارق السن بين الشريكين كبيراً، وهو أمر لا يخفيه “زواج من النظرة الأولى” ليطرح حقيقة الإشكالات التي تواجه شركاء وجدوا أنفسهم بطريقة تتجاوز التقليدي بكثير. ويكشف هذا البرنامج كيف تصطدم ذكورية ونسوية الطرفين. فبعض الرجال المتزوجين بهذه الطريقة يظنون أن الزوجة مهمتها إرضاء الزوج وخدمته. فطهي الطعام وترتيب المنزل أمور تلقى على عاتق الزوجة، فيما بعض المتزوجين من الرجال يواصلون حياتهم وكأنهم لم يتزوجوا، ويركزون وقتهم على ألعاب الفيديو والخروج إلى الحانات من دون أن يمنحوا زوجاتهم الاهتمام المتوقع، بينما تبحث الزوجة عن الحب والاهتمام. ورغم تدخل الأطباء النفسانيين والمتخصصين لإصلاح الشروخ التي تصيب الحياة الزوجية إلا أن المهمة كثيرا ما تفشل، وبعضهم ينسحب من التجربة بعد وقت قصير من خوضها، فيما آخرون يشعرون فعليا بتحطم نفسي وعاطفي لتعلقهم بالشريك غير الراغب بالاستمرار، وآخرون، ممن جربوا حياة زواج سابقة، يتصرفون بنضوج وتبقى صداقتهم مستمرة حتى بعد انتهاء التجربة وانفصالهما.
خلاصات خبراء
ولكن ذلك لا يعني أن “زواجاً من النظرة الأولى” لا ينتهي أيضا بوقوع الطرفين في الحب بعد الزواج والعيش سوية وإنجاب أطفال. فقد حملت المواسم السابقة استمرار أزواج في حياتهما والانتقال إلى بيوت مشتركة وتأسيس عائلة، وبعضهم انتقل إلى البلد الذي يعمل فيه الزوج، كالولايات المتحدة، وصار لديهم أطفال، ويقدمون نصائحهم حول كيفية الاستمرار في الحياة، وإن كان الزواج جاء بلا حب أو التقاء وتعارف مسبق.
يخرج المتخصصون النفسانيون وعلماء الجنس ووسطاء شراكة الحياة الذين يتابعون الموسم الخامس، بناء على تجربة أربعة مواسم خلال الأعوام الماضية، ببعض الخلاصات عن هذه النوعية من الزواج التقليدي:
المشترك في التقاء طرفين يتزوجان من النظرة الأولى أن المجربين في الحياة هم الأكثر جرأة وتسامحا وإظهار مودة ورحمة وقدرة على إنجاح علاقتهما، ولو كانت بقبول الزواج من أول نظرة أو التقاء.
الشيء الآخر الذي استخلصه هؤلاء حتى الآن، في برنامج يبدو أنه سيستمر لمواسم أخرى بسبب شعبيته الكبيرة، إن في الدنمارك أو في جاراتها الاسكندنافية الذين يتابعونه ويفهمون لغته المشتركة بينهم، أن بعضهم يرى في الزواج من النظرة الأولى مخرجا ذكيا وأنيقا لحياة حب وجنس تعتمد على العمل الشاق لقلب العلاقة من تقليدية إلى رومانسية، وهو ما يهدف لفحصه معدو البرنامج من خلال وضع الطرفين في حالة استكشاف وتقديم الإرشادات والتدريب الذاتي للتنازل عن العناد والتصرف بليونة لمواصلة الحياة الزوجية، ولو كانت من نظرة أولى.
لكنه أيضا يكشف عن استحالة العيش المشترك ولو لأسابيع حين يكون طرف من الطرفين يتقصد العيش وفق عقلية الهيمنة ومسح شخصية الطرف المقابل.. بل وحتى في مدة قصيرة يكشف النقاب عن إمكانية أن تدمر الغيرة الحياة الزوجية.. بل يمكن لتعليق “عنصري” بحق شاب مسلم يعمل في مطعم بيتزا من قبل زوج أن ينهي العلاقة من طرف الزوجة التي ترفض العيش مع عنصري.
وآخر الأشياء المهمة في برنامج “زواج من النظرة الأولى” أنه يتيح للشريك الانسحاب، وطلب الطلاق، فيما أزواج كثيرون في الحياة اليومية يعيشون مجبرين على الاستمرار رغم غياب الحب والتفاهم.
العربي الجديد