تحقيقات وتقارير

اتخذ أشكالاً مختلفة التسوّل.. من الهواية إلى الاحتراف

في مجمع إحدى العيادات كان يجلس أحد مرافقي المرضى بزيه القومي المميز وبجواره ابنه المريض في انتظار مقابلة الطبيب المختص،

وبينما كاتب الطبيب ينادي على المرضى والجميع في حالات ترقب بعد طول انتظار يدخل إلى بهو العيادة شاب مفتول العضلات يرتدي تي شيرت أبيض وبنطال ويكشف عن بطنه التي تعاني من بعض الأورام محاولة منه لاستعطاف الناس بعد أن أخبرهم أنه يعاني من فتاق وأنه بحاجة إلى عملية عاجلة تكلف خمسة آلاف جنيه جمع منها 4200 وتبقى له 800 فانهالت عليه التبرعات ويخرج من المجمع وعلى شفتيه ابتسامة رضى، غير أن المفاجأة أن ذات الشاب جاء بعد يومين إلى ذات المجمع وكرر ذات السيناريو إلا أنه صدم عندما وقف أحد المرافقين وقال له بعبارة حاسمة “انت حكايتك شنو ثلاثة سنين انت العملية دي ما عملتها”، وهنا تسمر الشاب من الدهشة وأطلق ساقيه للريح.

أساليب مختلفة

السيناريو الذي رسمه ذلك الشاب لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، ومن واقع حركتنا في المجتمع صادفتنا العديد من الصور والمشاهد تحكي الأساليب المختلفة للتسول الذي بات ظاهرة تتفاقم وتزداد يوماً بعد يوم وادعاء المرض واحد من حيل التسول الناجعة، فكثير من المتسولين يحملون روشتات لأدوية باهظة الثمن ويطوفون بها أمام المستشفيات الخاصة والعيادات ومنهم من حصد أموالاً طائلة، ومنهم من انكشف أمره وبات معروفًا فأعاد حساباته وانتقل إلى موقع آخر بعد أن أحرق كل أوراقه .

استرجاع الدواء

ومن المشاهد التي صادفتني، تلك المرة المسنة، وكنا نجلس مجموعة فطلبت المرأة المساعدة وزعمت أن ابنها يحتاج عملية وأنه طريح الفراش بإحدى المستشفيات وبحاجة إلى علاجات أمسك البروف علي بالروشتة وذهب إلى أقرب صيدلية وأحضر كل العلاجات المطلوبة وشدد أحد الأصدقاء على صاحب الصيدلية بألا يقوم باسترجاع الدواء إذا طلبت المرأة ذلك، ولم تمض بضع دقائق إلا وذهبت المرأة إلى الصيدلية لاسترجاع الدواء كما توقع من كان يجلس معنا.

قصص مأساوية

وعلى إشارات المرور تبدو عشرات القصص المأساوية التي تؤكد أن الظاهرة بحاجة إلى دراسة بعد أن تنامت واستشرت وتحولت من دافع الحاجة الى مهنة تدر المال دون جهد وتعب، وخطورة الأمر تكمن في استخدام الأطفال في التسول تتراوح أعمارهم بين السابعة إلى العاشرة، والتسول في الإشارات المرورية يأخذ عدة أشكال أشهرها التسول الناعم والمتمثل في مسح الزجاج في حال توقف العربة.

شبكة منظمة

ما يحز في النفس، ويجعل القلوب تتمزق ألماً أن معظم الأطفال المستخدمين في التسول في إشارات المرور تجد وراءهم مجموعة من النساء يجلسن تحت ظل الأشجار ويقوم الأطفال باستجداء السائقين وجمع الأموال وتوريدها لهن غير آبهات بالخطورة التي يمكن أن يعرض لها هؤلاء الأطفال وهم يتجولون بين السيارات.

حالة يرثى لها

واقع الحال يشير إلى أن هؤلاء الأطفال يتم استئجارهم لأداء هذه المهمة، لأنه من المستحيل أن تجازف أم بأن تعرض حياة ابنها للخطر.

وفي شارع البرلمان تجلس بالقرب من محل بيع الملابس إحدى السيدات بجانبها طفل لا يتجاوز عمره السنة، يلبس كلاهما ثياباً متّسخة ممزقة في حالة يرثى لها، تمر ساعات اليوم وهي على ذات الحال في نفس المكان، تتوسّل وتستعطف المارة لمدها ببعض الجنيهات، هذا هو المشهد الذي نراه كل يوم، وبات صورة معتادة، مما جعل بعض الناس يختلط عليهم الأمر وباتوا لا يفرقون بين المحتاج ومن اتخذ التسول مهنة لكسب العيش .

آراء مختلفة

وفي هذه الجزئية تختلف الآراء، فيرى البعض أن هؤلاء المتسولين مرغمون على انتهاج مثل هذه السلوكيات لكسب لقمة العيش وبقائهم على قيد الحياة نظراً لظروفهم القاسية والفقر الذي يواجههم والذي لم يترك لهم خيارًا آخر يسلكونه ليقاوموا ألم إمعائهم الخاوية، كما يعتبرونهم مساكين وبؤساء مضوا في هذا الطريق مرغمين، بينما يرى البعض الآخر أن التسول اليوم أصبح مهنة يحترفها هؤلاء المحتالون وهم في الحقيقة يمتلكون أموالاً طائلة تكدس في البنوك ومنازل فخمة وأملاك يحسدون عليها.

تنظيم وجماعات

أصبح التسول في الآونة الأخيرة ينظم عبر جماعات ومؤسسات تقوم باستغلال الأموال والمساعدات التي يتحصل عليها المتسولون، لاسيما الأطفال لاستثمارها والمتاجرة بها في مجالات أخرى والشاهد في ذلك الحادثة التي شهدتها مدينة ود مدني عندما قام أحد الشباب بالاحتيال على مجموعة من المتسولين الذين اتخذوا من الجامع الكبير مقراً لهم ولهف بخطة ذكية مبلغ 100 ألف جنيه بعد أن قام بإطعام المتسولين أرز باللبن خلطه بمادة مخدرة وأفرغ حقائبهم من المال وعندما تقدموا بعريضة إلى الشرطة ارتسمت الدهشة على وجه الضابط المسؤول وخاطبهم انتو وكت عندكم المبلغ دا بتتسولوا مالكم .

موقف بالشهداء

روى صاحب صيدلية في موقف الشهداء، أن هنالك امرأة متسولة تحضر إليه كل يوم تقوم باستبدال العملة الفكة بفئة الخمسين، وقال لي إن متوسط دخلها يتراوح ما بين 650 إلى 800 جنيه في اليوم.

أزمة أسرية

ومن القصص الغريبة والعجيبة في ذات الوقت، أن رجلاً اشتهر بالتسول في سوق أم درمان شارع الصاغة ومحلات التحف والأناتيك، هذا الرجل بحسب رواية أحد العمال المشتغلين في صناعة الإكسسوارات النسائية يمتلك ثلاثة منازل في أحياء أم درمان الراقية ولديه من الأبناء من يعملون في وظائف مرموقه كالطب والمحاماة، وبسبب هذا السلوك غادر معظم أبنائه إلى خارج السودان وأصيبت إحدى بناته بحالة نفسية، ورغم كل ذلك لا زال يمارس المهنة بكل احترافيه .

تشريح الظاهرة

ولتفسير وتحليل هذه الظاهرة، يقول بروفيسور علي بلدو استشاري الأمراض النفسية والعصبية، إن التسول نزوع سيكولوجي يعتمد الاتكال على الآخرين ويزداد توغلاً حين يجد التربة المناسبة والمشجعة على مد اليد بعيداً عن أوجاع الكد وآلام تحمل المسؤولية، ويعد كذلك من بين الظواهر المترسخة في عمق النسيج الاجتماعي التي تنوعت ملامحه وتشعبت دروبه.

ويكشف بلدو أن الدراسات الإحصائية أثبتت أن هنالك تطوراً في عمل المتسولين خاصة في أوساط المقهورين في قاع المدينة، ويؤكد بلدو للصيحة أن الجهود الرامية إلى محاربة التسول ضعيفة لا ترقى إلى مستوى التصدي، سيما وأن أعلى نسبة للتسول تتشكل من أولئك الذين تمكنوا من تطوير أساليبهم التقليدية المعتمدة على سد الحاجيات البسيطة وتأمين الغذاء اليومي والانتقال إلى احتراف منظم يتيح الحصول على أرباح خيالية وسهلة من خلال ابتكار طرق حديثة ومتجددة في الاحتيال، فضلاً عن ظهور شبكات إجرامية لا تتحرج من فظاعة استغلالها للمستضعفين أمهات مطلقات أطفال صغار ورضع، أرامل وشيوخ، بل وحتى المعاقين جسدياً وذهنياً. ويضيف بلدو أن التسول تنشط حركته وتزدهر أسواقه بشكل لافت خلال المناسبات والأعياد الدينية في شهر رمضان الكريم وعيد الفطر وعيد الأضحى.

أشكال مختلفة

ويمضي الاختصاصي المعروف في حديثه، ويقول: للتسول إشكالية معقدة، وذات جذور مربكة، منها الذاتي ومنها الموضوعي، وتختلف حسب الظروف والمواقع كونها ناجمة عن ارتفاع معدل الفقر. والجهل والبطالة وغلاء المعيشة. ويضيف: هناك عوامل أخرى تتمثل في النزوح القروي، وفقدان العائل بالنسبة للأطفال أو الأيتام والأرامل، وفقدان العمل وافتقاد التوعية والإشراف التربوي، وانعدام الحس الأخلاقي في احترام عزة النفس وصيانة الكرامة الإنسانية، ولعل ما يساعد في تكريس الظاهرة أن بعض قيمنا تدعو إلى التضامن والتكافل دون أن نحسن تصريفها فتؤدي إلى نتائج عكسية.

التماس العطايا

من جانبه يتساءل الباحث الاجتماعي د. علاء الدين أستاذ علم النفس كيف لشباب في مقتبل العمر قوي البنية وسليم العقل أن يذل نفسه باللجوء إلى التماس العطايا تحت أقنعة متعددة، إما عبر قميص رياضي لمساعدة فريق خيالي، وإما متسكعاً في الأزقة متخفياً وراء مكنسة متلاشية، وإما متنقلاً بين حافلات النقل العمومي في المحطات بحثاً عن تكملة ثمن تذكرة وهمية، وإما اختلاق عاهات استدرارًا للعطف من أجل كسب سهل بغرض تكديس المال أو إنفاقه في تلبية النزوات واستهلاك المخدرات.

آفة التسول

ويضيف دكتور علاء الدين بقوله: نحن ندرك جيداً أن آفة التسول عميقة وسريعة التفاقم وتستلزم معالجتها تضافر جهود الجميع، إذ بمجرد الإقدام على مساعدة جار أو قريب في إحدى المناسبات الدينية (زكاة عيد الفطر مثلاً) أو لتجاوز محنة طارئة، حتى يستلذ الشخص ذلك فيتوالى التشكي وتتناسل الأكاذيب طلباً للاستزادة، وينبغي أن تكون هنالك سياسة متكاملة تعتمد مقاربات اجتماعية شمولية لتطويق الظاهرة والقضاء عليها.

الحد من خطورة الظاهرة

يرى القانوني معاوية عابدين، أن الحد من خطورة ظاهرة التسول وعواقبها الوخيمة على المجتمع، يعتبر أحد أهم الأهداف الإنمائية، التي تستوجب تحديد معالم خارطة طريق لإصلاح جذري يساهم في تجفيف منابع التسول انطلاقاً من محاربة مظاهر الفقر والأمية والبطالة وصناعة تنمية بشرية مستدامة بتوفير الخدمات الاجتماعية، والحرص على معالجة سلوك المتسولين بواسطة خبراء نفس.

حرفة مدرة للمال

تؤكد الباحثة الاجتماعية سامية عبد الله أن التسول لم يعد مرتبطاً بالفقر والهشاشة والتهميش، بل أصبح حرفة مدرة للمال يمتهنها العديدون من مختلف الشرائح، وبات يشكل كابوساً مؤرقاً لما يترتب عليه من انحرافات وأخطار تهدد الاستقرار والمظهر العام في ظل تزايد عدد المتسولين المنحدرين من الضواحي الهامشية أو المتسولين الأجانب الذين يتحولون في فترات البوار إلى عصابات إجرامية تروع المواطنين فضلاً عن التأثير المباشر على الشارع العام.

الصيحة