منوعات

الأوقات السيئة والخطيرة تمر ببطء شديد؟ إليك الأسباب العلمية

في انتظار نتائج التحاليل الأخيرة والتي ستؤكد أو تنفي عودة السرطان لالتهام رئتيه، يجلس السيد والتر وايت، بطل المسلسل الشهير “بريكنج باد” (Breaking Bad)، على أحد مقاعد المستشفى لدقائق قليلة، لكنها بدت فارغة للغاية، للدرجة التي تدفعك إلى الشعور بما يحدث داخل السيد وايت الآن، إنه لا شيء.. وكل شيء، فبينما تتصارع بداخله المشاعر القلِقة والحائرة، وتتحفز مناطق الخوف في دماغه، يمر الزمن ببطء شديد، وحينما تتأمل ساعتك في أوقات كتلك التي تنتظر فيها شيئا مهما أو تشهد شيئا خطيرا أو داعيا للخوف، مثل السيد وايت، تتعجب من مرور عشر دقائق فقط، هل هذا ممكن؟ عشر دقائق فقط؟ لقد ظننت أنها ساعة مثلا!!

لطالما كان هذا السؤال عن إدراكنا للزمن شاغلا رئيسيا في وسط علم النفس البحثي، خذ مثلا ويليام جيمس، النفساني الشهير الذي يقول في كتابه أساسيات علم النفس الصادر سنة 1890: “بشكل عام، يمر الوقت المليء بتجارب متنوعة ومثيرة بسرعة أثناء اختبارنا لتلك التجارب، ولكنه يبدو أكثر طولا حينما ننظر للوراء كي نتأمله بعد كل تلك الأحداث. من ناحية أخرى، يمر الوقت الخالي من التجارب ببطء، ولكن حينما نتأمله بعد انتهائه فإنه يبدو قد مر في وقت قصير”.

الدماغ كساعة ثمينة
في تلك النقطة يمكن لنا التمييز بين منظورين1 نتأمل بهما، نحن البشر، الزمن الذي يمر علينا: المنظور المرتقِب (prospective)، ويكون في أثناء وقوع الحدث، والمنظور الاسترجاعي (retrospective)، أي بعد انتهاء الحدث، وهنا يحدث تناقض واضح، فبينما تقضي عطلتك الصيفية، وتستمتع بالاحتفال بعيدا عن العمل، سوف تتأمل تلك الفترة وكأنها تمر بسرعة شديدة، لكن دع عددا من الأسابيع تمر بعدها، وتذكر تلك العطلة، ستظهر تلك الفترة باعتبارها أكثر طولا مما ظننت أو كنت تشعر وقتها، تسمى الحالة من التناقض بمفارقة العطلة (Holiday Paradox).

لكن دعنا، قبل الولوج إلى تفسير ذلك التناقض، نتعرف قليلا إلى ما يعنيه الزمن بالنسبة للدماغ البشري، فالدماغ، هذا الكيان المعقد، يوجد في حجرة مظلمة هي الجمجمة الخاصة بك، لا يربطه بالعالم سوى مجموعة من الإشارات الكهروكيميائية التي تلتقطها حواسك لتصنع لنا صورة عن العالم الخارجي، تلك الصورة تتضمن كذلك -بجانب شعورنا بالوجود في الفضاء ثلاثي البعد- شعورا بالزمن، سواء على مستوى عدة أيام أو عدة شهور، لتنظيم العديد من العمليات الحيوية كالتكاثر مثلا، أو على مستوى اليوم الكامل، حيث ينظم الدماغ عبر الساعة البيولوجية عمليات النوم واليقظة، لكن الأمر قد يكون أكثر دقة من ذلك أيضا.

فمثلا، لنتأمل تلك الحكاية الشهيرة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي التي تقول إن لصًّا غيّر موضع نقطة في جملة تقول: “العفو عنه مستحيل. يُنقل إلى السجن ويُعدم” لتكون: “العفو عنه. مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم”، إن تلك النقطة تعبّر عن “سكون” سريع في وسط الكلام قد يغير المعنى بتنويع موضعه، ما يعني أن أدمغتنا أيضا قادرة على قياس الزمن2 إلى نقاط تقف عند حدود الثواني القليلة، وحتّى إلى ما هو أدنى من ذلك بين ترددات صوتية تقف عند حاجز الميكروثانية (1 من ألف من الثانية)، ما يعني، في النهاية، أن لدينا ساعة، أو قل عدة ساعات، دقيقة في أدمغتنا.

لكن ربما سيكون السؤال التالي لك هنا هو: كيف إذن يحسب الدماغ الوقت؟ الساعات العادية تحتاج إلى نبضات متكررة يمكن عدها بحيث تحسب مرور الثواني (1، 2، 3، 4، إلخ)، لكن الدماغ يعتمد على الديناميكا3 الخاصة به، لتوضيح ذلك دعنا مثلا نتأمل صورة، مجرد صورة ثابتة، لسطح بحيرة ما أثناء المطر، حينما تسقط القطرات على سطح البحيرة فإنها تصنع دوائر تتسع شيئا فشيئا من أثر سقوطها، إذن يمكن لنا عبر تأمل تلك الدوائر أن نقول أي القطرات سقطت قبل الأخرى، وبحسبة بسيطة يمكن توقع فارق الثواني، ما يعني أن كل نظام فيزيائي ديناميكي يحتوي -بحكم طبيعته- على معلومات عن الزمن بداخله. تلك هي أيضا، بصورة غاية في التبسيط بالطبع، أحد الطرق التي يعمل بها مؤقت دماغك.

في تلك النقطة دعنا نرجع من جديد إلى مشكلتنا الرئيسية، حيث إن كان هذا الدماغ هو عدة ساعات دقيقة متفاعلة، لماذا إذن ندرك الزمن بشكل ذاتي (Subjective) في بعض الأحيان فيبدو لنا مروره بطيئا للغاية أو سريعا كلمحة بصر؟ هنا سوف نحتاج إلى تأمل اختبار شهير يسمى تأثير الغرابة4 (oddball effect)، لنفترض مثلا أنك تجلس الآن أمام شاشة حاسوب، على الشاشة تمر أمامك صور للشيء نفسه بشكل منتظم ولمدة طويلة، لتكن صورة كرة قدم مثلا، لكن في إحدى المرات بعد فترة ستمر أمامك صورة لثمرة تفّاح، إنها تمر بالسرعة نفسها التي تمر بها صور كرة القدم، لكنك ستشعر بأن صورة ثمرة التفاح قد أخذت وقتا أطول للمرور.

الزمن والذاكرة!
ولفهم ما يحدث هنا بصورة أوضح يمكن أن نتأمل تجربة أخرى بسيطة، حينما نعرض على مجموعة من الأشخاص5 صورة واحدة لغصن شجرة، مثلا، لمدة نصف دقيقة، ثم نعرض عليهم فيديو بسيطا، ليكن مثلا لمجموعة تتزحلق على الجليد، لمدة نصف دقيقة أيضا، فسوف يكون هناك ميل واضح لدى هؤلاء الأشخاص لتقييم ذلك الفيديو على أنه قد أخذ فترة أطول، وذلك لأن الفيديو -على عكس الصورة- يحتوي على عدد أكبر من المثيرات للانتباه، ما يجعل العقل منشغلا بدرجة أكبر ليسجل كمًّا أكبر من البيانات، وهو ما يعطيك شعورا، حينما تُسأل بعد التجربة، أنه قد مر الكثير من الوقت، للسبب نفسه ستجد أن رحلتك لمكان ما لا تعرفه -لأول مرة- تبدو كأنها أطول أثناء رحلة العودة، لأنك في رحلة الذهاب كنت قد شحذت تركيزك للعديد من المثيرات وسجلت عددا أكبر من الذكريات، فبدت تلك الرحلة، بعد انتهائها، كأنها أطول من رحلة العودة في الطريق نفسه، والذي أصبح مألوفا بالنسبة لك.

تجربة مشابهة يمكن لك تنفيذها في المنزل، أمسك بساعة واطلب من أحدهم أن يقفز على قدم واحدة، لا تخبره بالوقت المنقضي، لكن بعد 15 ثانية اطلب منه أن يصفّر في أثناء ذلك، استمر خلال كل تلك الحركات في الحديث معه (اقفز، استمر في القفز، قاربنا على الانتهاء، الآن قلد صفير العصفور، إلخ)، ثم بعد 30 ثانية مثلا اطلب منه التوقف، واسأله كم من الزمن مر أثناء تلك العملية المجنونة، هنا سيميل معظم الناس إلى إعطائك إجابة خاطئة للغاية قد تصل عند البعض إلى تقدير تلك الفترة على أنها دقيقتان.

يشير كل ذلك إذن إلى أن الآلية التي ندرك بها “حجم” الوقت المنقضي خلال حادث ما، أو بعده، تتعلق بشكل رئيسي بالذاكرة الخاصة بنا، إنه استنتاج عجيب في الحقيقة، لكنه يتأكد في كل مرة نحاول فيها أن نقارن بين الوقت الذي يدركه الناس في ظروف محددة، والوقت الموضوعي الذي تقيسه الساعة، خذ مثلا تلك التجارب6 التي يُلقى أثناءها بالخاضع للتجربة من ارتفاع كبير، بينما يكون مربوطا بشكل جيد، مسافة 50 مترا ثم يعود للأعلى، هنا يسجل هؤلاء أن الوقت -في أثناء السقوط- كان يمر ببطء شديد، لكن ما حدث هو استثارة مفاجئة لمنطقة اللوزة الدماغية (Amygdala)، هنا تنتقل اللعبة إلى مستوى جديد.

حيث تشارك تلك المنطقة في إدراك وتقييم العواطف و المدارك الحسية والاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق، وهي ما دفع بدفقة كبيرة من الذكريات إلى هذا الموقف الخطير (السقوط) فبدا كأن الزمن قد تمدد خلاله، حيث إن مرور الوقت الذي نتصور أننا قضيناه في حادثة ما مرتبط بكمية المعلومات الإدراكية الجديدة التي نستوعبها، مع الكثير من المحفزات الجديدة، خاصة تلك القاسية كحالات الطوارئ، تستغرق أدمغتنا وقتا أطول لمعالجة هذه المعلومات بحيث تبدو كأنها أخذت فترة زمنية أطول حينما نُعيد تذكرها.

وهذا هو نفس ما حدث مع السيد وايت أثناء قلقه، فبجانب أفكاره عن كيفية طبخ الميثامفيتامين الكريستالي وتوزيعه، ركّز السيد وايت انتباهه داخليا على مرور الوقت الخاص به، ومع القلق والخوف والانشغال الشديد بالنتائج بدا الوقت كأنما يمر ببطء شديد، لكن، بعد هذا الموقف بنحو الأسبوع مثلا، إن حدث وسألته عن الوقت الذي مر أثناء انتظاره، فغالبا ما سيقول إنه مر بسرعة، أو سيعطيه قيمة أقل مما حدث بالفعل، لأنه على الرغم من قلقه وقتها، فإنه لم تكن هناك الكثير من الذكريات.

لماذا يجري الزمن كلما تقدمنا في العمر؟
من جهة أخرى ينجح هذا الاستنتاج الذي يربط بين الذاكرة وإدراكنا للزمن، بجانب عدة فرضيات أخرى ترتبط بالجانب البيولوجي أيضا، في تفسير مشكلة مهمة أخرى، غالبا ما تدعونا للحزن، حيث تبدو حياتنا كأنها تجري بشكل متسارع، فحينما نقترب من الأربعينيات من عمرنا، مثلا، نلاحظ الوقت وكأنه يمر بسرعة شديدة للغاية، بينما نتذكر أن أوقات شبابنا وطفولتنا كانت أبطأ من ذلك، والأمر يتعلق أيضا بالذاكرة7؛ فبالنسبة للأطفال، العالم هو مكان جديد، غير مألوف في كثير من الأحيان، مليء بالتجارب الجديدة التي تتطلب درجات متفاوتة من التفاعل، هذا يعني أن الأطفال يجب أن يكرسوا المزيد من قدراتهم الدماغية بشكل أكبر لتكوين أفكارهم عن العالم الخارجي، لذلك فإننا نتذكر فترات طفولتنا كأنما مرت ببطء، لأن بها العديد من الذكريات.

في المقابل من ذلك فإننا نصبح أكثر أُلفة مع العالم كلما ازدادت أعمارنا، ينخفض عدد المثيرات الجديدة بشكل كارثي، ونألف قوانين الواقع ونسير بها، ونادرا ما نقابل شيئا جديدا، بالتالي فإن ذكرياتنا عن هذه الفترات كلما ازدادت أعمارنا تقل في العدد، فندركها كأنها حدثت بشكل أسرع، في الحقيقة يعطينا ذلك فكرة مختلفة تماما عن الزمن الشخصي الخاص بكل فرد، بمعنى آخر، نعرف أن أيام الأسبوع متساوية في الوقت بالطبع، وشهور السنة، وسنوات العمر، لكن حينما يُطلب إلى مجموعة من الأفراد مثلا، تقييم الطول الفعلي لأيام الأسبوع التي تمر بهم، أو الشهور أو السنوات، فإن الشكل الذي يرسمونه لا يكون خطا مستقيما، بل خطا متعرجا على حسب حجم الأحداث الجديدة التي حدثت لنا، قد لا نتذكر بوضوح ما الذي حدث في 2010، فنتصور أنها مرت بسرعة، أما 2011 فهي سنة الثورات في الوطن العربي، تدعونا تلك الأحداث الخاصة والعامة اللافتة بها إلى تصور أنها قد مرت ببطء شديد.

أضف إلى ذلك أن ذكرياتنا عن الأحداث التي مرت في حياتنا هي ما يحكم تصوراتنا عن الفترات الزمنية التي مرّت بينها، بمعنى أوضح، نحن نتذكر الأحداث القريبة (خلال ثلاث سنوات من الآن) على أنها أبعد من موقعها الحقيقي، فتتصور مثلا أن لقاء حدث بينك وبين صديق لك كان في مايو/أيار 2017 لكنه، في الأصل، كان في ديسمبر/كانون الأول 2016، في المقابل فنحن نتذكر الأحداث البعيدة في أعمارنا (قبل 25 سنة فقط مثلا)، على أنها حدثت في وقت قريب (15 سنة مثلا أو أقل)، يسمى ذلك بتأثير التقريب8 (Telescoping Effect).

ساعة متحيزة
تأثير التقريب هو تحيز إدراكي يوضح مدى قوة تأثير ذاكرتنا على إدراكنا للزمن، فنحن أكثر تذكرا للأحداث التي مرت بنا خلال السنوات القليلة السابقة، وبما أن عدد ذكرياتنا، وقوة عاطفتها، يحدد إدراكنا لكمّ الزمن الذي مر، فإن ذلك يدفعنا إلى تصور أن المسافة الزمنية بيننا وبين الأحداث القريبة أبعد مما نظن، بينما يؤثر ذلك بالعكس على الأحداث البعيدة، فنحن نفقد الكثير من الذكريات مع مرور العمر، بالتالي فإن عدد الذكريات بيننا الآن وبين حدث بعيد يكون أقل من المتوقع، ما يدفعنا لنتصور أن تلك الأحداث البعيدة كانت أقرب مما هي في الحقيقة.

لكن على الرغم من ذلك كله، فإن المشكلة التي تتعلق بإدراكنا للزمن ما زالت مجال بحث نشطا مسكونا بآلاف الفرضيات، كل ما نملكه الآن هو تفسيرات، أو قُل برامج بحث، تحاول أن تشرح آلية عمل تلك الأوهام الزمنية التي نقع في أسرها بشكل يومي، لكن ما يحدث في الدماغ نفسه ما زال، إلى الآن، سرا كبيرا، فنحن لا نعرف موضع معالجة الزمن في الدماغ (عدا الجانب المتعلق بالساعة البيولوجية)، كذلك لا نعرف بشكل واضح كيف يشكل الدماغ وعيه بالزمن، أضف إلى ذلك أننا لا نعرف لِمَ يختص البشر بتلك الخاصية الغاية في الفاعلية التي تسمى “السفر عبر الزمن”، فدماغك قادر ببساطة على السفر إلى الماضي وتوقع المستقبل إلى حد كبير، بينما لا تتخطى أقرب الحيوانات لنا ولو نقطة من بحر تلك القدرة.

الزمن إذن، بالنسبة لنا، لإدراكنا لهذا العالم، وبالنسبة لعالم الفيزياء الحديثة على حد سواء، ليس نهرا يجري، بل هو أشبه بمجموعة بحيرات بعضها كبير والآخر صغير، تعلمنا الأبحاث الجديدة في العلوم العصبية أن الصورة المكانية والزمانية عن العالم الذي يحيط بنا هي، في الأصل، أشبه ما يكون بقطعة قماش مرقّعة بها أخرام متعددة مختلفة الحجم، فنحن نعرف أن أجهزة الإدراك الخاصة بنا تتلقى المؤثرات الخارجية بسرعات، أو قل “ساعات”، مختلفة، ما يجعل صورتنا الحقيقية عن العالم مشوهة للغاية، لكن دماغنا يعالج ذلك كله ليصنع لنا عالما يمكن فهمه والتفاعل معه، دماغنا إذن هو، بصورة أو بأخرى، ما يصنع العالم الخارجي، لكن.. هل العالم الحقيقي هو العالم الذي صنعته ساعاتنا المتخبّطة؟ لا ندري.

الجزيرة