جعفر عباس

بنتي وصدام الحضارات

بعد انتقال عائلتي معي الى لندن، سجلوا بنتي في مدرسة مختلطة، واكتشفت أنها ذات سجل باهر في مجال الفشل الأكاديمي، ولم يكن من سبيل لإخراجها منها سوى الاحتجاج بأنه لا يجوز لبنت مسلمة الجلوس وسط أولاد، وهكذا نقلوها الى مدرسة كوين إليزابيث للبنات في هاي بارنيت، ولكن رغم أنها نالت مرادها وانتقلت الى مدرسة ليس فيها اختلاط فإن فرحة الانتقال الى لندن فارقتها بعد زوال سكرة رؤية معالم لندن المشهورة.
قلت لها: يا مفترية. في لندن قفزوا بك عامين دراسيين، وخصصوا معلمة لمساعدتك على إجادة الإنجليزية. والمشوار من البيت الى المدرسة لا يستغرق أكثر من ربع ساعة بالقطار.. مفيش فايدة.. صارت تكره المدرسة والخواجات ولندن وتسألني يوميا عن موعد مغادرتنا لبريطانيا، فأقول لها: يا بنت الناس نحن لسنا في إجازة هنا لنحدد موعد المغادرة، وعرفت سر كراهيتها للندن عندما وصلتني رسالة بريدية من إدارة مدرستها تبلغني فيها أنه من حقي كوليّ أمرها أن أقرر ما إذا كانت ستحضر دروس التربية الجنسية أم لا، فأعطيتها الرسالة وقرأتها وانفجرت: هل عندهم شيء غير التربية الجنسية؟ الجغرافيا والرياضيات والتاريخ كلها تتحول عند البنات بشكل أو بآخر إلى مناسبة للخوض في الأمور الجنسية بلغة مبتذلة.
بنتي هذه كانت وما تزال أكثر عيالي هدوءاً، ولم تكن تخالف لي أو أمها أمراً، ولكنها أعلنت ذات يوم العصيان المدني، وحلفت بالطلاق أنها لن تذهب الى المدرسة، ولأنها كانت ولا تزال وديعة، لم أفكر قط في استخدام النهر والزجر والأمر لإرغامها على مواصلة الدراسة، ولما اتصلت بي إدارة المدرسة لتبلغني بتغيبها قلت لهم إنها مريضة، واستمر الإضراب نحو ثلاثة أسابيع، ظللت خلالها أقنعها بأن إقامتنا في لندن مؤقتة، وأنها ستستفيد كثيرا لو أتقنت الإنجليزية، وبدأ رأسها »يلين« قليلا، ولكن ما جعلها تعود الى المدرسة هو أن إدارتها كانت تتصل بنا بانتظام للاستفسار عن صحتها، فأحسّت بأن المعلمات على الأقل مهذبات.
وسبحان الله… فقد وقعت بنتي هذه في حب اللغة الإنجليزية ونالت درجة الماجستير فيها وعمرها 23 سنة، ثم الدكتوراه، ومع أنها تدرك أن الفترة التي قضتها في لندن هي التي ساعدتها على إجادة الإنجليزية واتخاذها سلاحا لكسب الرزق فإنها لا تزال تكره لندن وسنين لندن وسيرة لندن.
بالنسبة لبنتي الصغرى -وكان عمرها وقتها 8 سنوات- كانت لندن هي »أحسن بلد في العالم« على حد تعبيرها )وكأنها رأت من العالم أكثر من أبوظبي – مسقط رأسها – وقطر والسودان(، وكانت شديدة الحماس للمدرسة رغم أنها لم تكن تعرف من الإنجليزية شيئا عندما التحقت بها، وكان مدير المدرسة قد »وعدني« بأنها ستصبح »بلبلاً« يتغنى بالإنجليزية خلال شهور قلائل، وكلف مدرسا اسمه قيت Gate بالإشراف عليها، بحكم أنه كان صاحب تجارب ناجحة مع عدد من التلميذات اليابانيات اللواتي كن مثلها لا يعرفن من الانجليزية حرفا عندما بدأن الدراسة، وبعد نحو ثلاثة أشهر جاءت مروة إلى البيت تحمل شهادة من المدرسة بأنها بنت ذكية وصارت تعبر عن نفسها بالإنجليزية بـ»ارتياح«.
أدهشني ذلك لأنني كنت أقضي الكثير من الوقت معها لمساعدتها في تعلُّم الإنجليزية، ولم ألمس فيها القدرة على إتيان جملة مفيدة بتلك اللغة، وفي اليوم التالي كنت في فناء المدرسة لاصطحابها الى البيت بعد انتهاء اليوم الدراسي، عندما التقيت مستر قيت، وسألته عن تلك الشهادة، فقال إنه كان يساعدها في فهم الدرس في اليوم السابق ويقوم بحركات تمثيلية فقالت له مروة: يو آر فاني .. يو آر أ كلاون )أنت مضحك. أنت مهرج(، فدوّت أيدي زميلاتها بالتصفيق، ليس شماتة في المدرس الذي وصفته بالمهرج، بل لكونها نطقت بأول جملة كاملة بالإنجليزية. وقلت لها: معك حق تفرحي بالمدرسة لأنك لو قلت مثل ذلك الكلام لمدرس في مدرسة عربية لجاء الى البيت وجلد جميع أفراد العائلة

زاوية غائمة
جعفر عباس