رأي ومقالات

كاتب يمجد رجل مخابرات مصر في السودان ويقول علي الدبلوماسية ان تتعلم من حاتم باشات!!

تهافت الصحافة علي موائد السياسة
تختزن الذاكرة الجمعية للنخبة السودانية حساسية مفرطة تجاه مؤلفات الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل خاصة كتابه ( خريف الغضب) لما فيه من ازدراء وازراء بنسب الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي ينحدر من أصول سودانية مرتبطة ببخيتة السودانية، وقبلها ازداد الحنق علي هيكل ردا علي مقاله بعد ثورة أكتوبر ( ثم ماذا بعد في السودان ) التي لم يعترف بأنها تستحق وصف ثورة. وثارت عليه ثائرة السودانيين بعد حديثه في قناة ( الجزيرة ) عن حادث استشهاد الامام الهادي الذي ادعي انه مات مسموما بفاكهة المانجو ، وكذلك حديثه للأستاذة لميس الحديدي وهو يزعم ان السودان محض جغرافيا فقط و انه ليس شعبا متجانسا بل تحالف قبائل علي مدي تاريخ السودان.
لكن يتجاهل السودانيون اهم كتبه ( بين الصحافة والسياسة) الذي اصدره في مطلع ثمانينات القرن الماضي ليوثق لإتهامات التجسس التي نهضت ضد الاستاذ والصحفي الكبير مصطفي امين. وقال انه قصد إصدار الكتاب وشهود هذا الحدث احياء حتي يردوا علي ما حرره من وقائع وحيثيات.
وجوهر كتاب هيكل هو مناقشة الخيط الرفيع بين السياسة والصحافة وكلاهما ضروري للآخر. وعندما تتعدي الصحافة الخطوط الفاصلة مع السياسة يصبح الامر استغلالا لمنابر تبحث عن الحقائق المجردة بحياد تام وتوظيفها لخدمة أغراض واهداف سياسية مما يفرغ رسالة الصحافة من محتواها. ولعل المثقف السوداني الوحيد الذي اهتم بقضية الاستاذ مصطفي امين كما ورد في كتاب (السياسة والصحافة ) لهيكل هو السياسي والأديب الراحل محمد احمد المحجوب الذي زار هيكل في الأهرام مع صديقه اللبناني سعيد فريحة صاحب دار الصياد في بيروت يطلبان التوسط لدي عبدالناصر لإطلاق سراح مصطفي امين. كما رصد هيكل ايضا شكوي المحجوب الدائمة في مصر من تمدد نفوذ الشيوعيين في الخرطوم مما يخشي منه في مستقبل توجهات الدولة السودانية. هذا وسبق للمحجوب ايضا ان توسط لدي عبدالناصر لإطلاق سراح العقاد وقال قولته المشهورة لو كان العقاد أديبا سودانيا لأقمنا له التماثيل وخلدناه رمزا قوميا للأدب السوداني.
لعل استدعاء كتاب هيكل في هذا المقام أملاه فقط سوق الأمثلة وتوليد الشواهدعلي ان الصحافة عندما تتخطي حدودها الطبيعية تفقد وظيفتها في إذكاء الوعي. وتمليك الحقائق لجمهرة القرّاء في اطار دورها الرقابي و مساهمتها في تأسيس عقد اجتماعي لتعميق الشراكة بين المواطن السوداني و الفضاء المدني والسياسي ومتعلقات شئونه العامة.
لذا سقط مصطفي امين وعلي امين وهما من أساطين الصحافة المصرية بوثائق دامغة سجلتها هيئة المخابرات العامة بعد ان زرعت اجهزة تنصت داخل منزله.
لعل أولي الملاحظات الجديرة بالتأمل هي ظاهرة وداع السفراء والقناصل بعد انتهاء فترك عملهم في السودان وعودتهم الي بلدانهم الأصلية . ولعل الجميع يتذكر مقال الاستاذ عثمان ميرغني وهو يودع قنصل مصر الأسبق ورجل مخابرات مصر في السودان حاتم باشات الذي حظي بأكثر من ٦٨ حفلة وداع في اظهر تجليات السذاجة العاطفية. وطلب حينها عثمان ميرغني في غمرة احتفائه وطربه الاجتماعي بوداع حاتم باشات ان يقول علي الدبلوماسية السودانية ان تتعلم فن العلاقات العامة من حاتم باشات. وكتمت الدبلوماسية السودانية غيظها حينذاك وهي تنظر لقلم وطني ضليع وهو يمجد رجل مخابرات دولة اجنبية وهو يستخدم بذكاء رأسماله الاجتماعي والسعي في المآتم والأفراح للحصول علي مايريد. وبلغت السذاجة ببعضهم ان ظن ان رجل مصر في السودان يتودد اليهم بأشخاصهم وهو يغذي فيهم الإحساس الذي يرضي غرور التضخم الذاتي والاهمية الكاذبة. واستغرب اهل الحكمة والرأي من ولوغ اقلام وطنية مرموقة في تمجيد عمل رجل مخابرات لدولة صديقة مقابل الحط من قدر دبلوماسيته الوطنية كأنها شرط لازم . وكان يمكن ان يفعل ذلك ما استجابت لقريحته كل قوافي المدح في الشعر العربي دون ان يتكبد مشاق الاساءة لأحد اهم مؤسسات الدولة الوطنية في العصر الحديث.لكنها عقدة المبالغة في التزلف.
لقد مر علي تاريخ مصر أفذاذ من السفراء السودانيين ، ولعل اخر العنقود كان الاستاذ الراحل احمد عبدالحليم الذي كان يناديه الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك ب ( عم احمد) . وللدكتور احمد أيادٍ بيضاء علي تمثيل مصر في المنظمات الدولية منها تبنيه لمبادرة ترشيح البرادعي لمنظمة الطاقة الذرية انابة عن المجموعة الافريقية بعد ان عارضت مصر ترشيحه بل واعتمدت ترشيح شخص اخر لكنه فاز بجهد وعبقرية عم احمد وهذا ما شهد به مكتوبا الدكتور مصطفي الفقي.
ذرفت عليه مصر فقط دموع العزاء الرسمي وودعته كما تودع احد ابنائها العائدين الي قراهم في صعيد مصر.
لم ولن تتجرأ صحيفة مصرية ان تكتب في تمجيد سفير او قنصل او رجل مخابرات سوداني انتهت فترة عمله في القاهرة مهما تفتقت عبقريته وامتدت أياديه سابغة بيضاء علي الجميع ، او حتي ان تقام له حفلات الوداع علي الوجه العاطفي الساذج كما تفعل نخبتنا و رجرجتنا لأن هذا الفعل يوقعها مباشرة تحت طائلة القانون. يبدو ان هذا الامر داء قديم اذ ودعت مدن وقري ونجوع السودان عشية الاستقلال حكامها الإنجليز بحفلات الشاي كما يودعون صديقا عزيزا وليس حاكما مستبدا ومستعمرا. لذا قال روبرت هاو آخر حاكم عام في ليلة وداعه في ام درمان وهدايا المصنوعات التقليدية تتناثر أمامه مد البصر انه يوصي اهل السودان بضرورة احسان تمثيل كل أقاليم السودان في مؤسسات حكم الدولة الوليدة.
لم يتوقف الامر عند هذه الظاهرة فحسب، بل امتدت لتفتح بعض الصحف ابوابها للسفراء والدبلوماسيين الأجانب ليقدموا لنا المحاضرات والدروس الوطنية المجانية، بل و تصل الجرأة ببعضهم ان يملي علي الدولة سياستها الخارجية وما يجب ان تفعله في المنابر الدولية . وسط استحسان تسبقه ابتسامات من حضور اللقاء. وتصدر الصحيفة في اليوم التالي وفي صدر صفحتها الأولي صورة تجمع رئيس التحرير بالضيف الزائر مع مجموعة منتقاة من المحررين ويحمل المانشيت درسا مجانيا للدولة والشعب السوداني في الوطنية، ومن ثم يفترع رئيس التحرير قلمه في اليوم التالي ليكتب عمودا مهللا بحكمة السفير وروح الالهام التي تنزلت عليه وهو بين محرري صحيفته ومتباهيا ان ما ذكره السفير هو نفس ما ظل يردده في أعمدته السابقة.
لم اجد طوال حياتي المهنية استرخاصا لمثل هذا الصنيع الا في صحفنا السودانية. و في كل العالم يبحث السفراء عن منافذ في الاعلام الداخلي للدول من اجل التعبير عن مواقف بلادهم في بعض القضايا، بل وتستعين السفارات بشركات متخصصة في العلاقات العامة من اجل إيجاد مساحة للتعبير في الاعلام الوطني.و هو ما يعرف بايجاد مساحة للتأثير علي الرأي العام الداخلي Buying influence وبلغ التعسف في الولايات المتحدة ان تم حظر التعامل الإعلامي مع السودان بحكم قانون العقوبات حتي بالاعلان مدفوع الأجر. في الوقت نفسه كانت بعض الصحف تفرد صفحاتها للقائم بالاعمال الامريكي بل تفخر بذلك ما دام يرضي غرورها الساذج ، ليقدم دروسا مجانية في الوطنية للشعب السوداني. بل اصبحت سانحة زيارة بعض صغار الدبلوماسيين لبعض مقار الصحف مناسبة لالتقاط الصور مع مانشيت عريض بالخط الأحمر ينقل فيه النصائح لهذا البلد المنكوب.
اتذكر وانا دبلوماسي يافع يتلمس خطواته في مدارج العمل الدبلوماسي ان رافقت سفيري وأستاذي الدكتور الخضر هارون لحضور اجتماع رتبه مع مجلس محرري الواشنطون بوست. وادهشني حين علمت ان الصحيفة تفصل مجلس التحرير والرأي عن مجلس الأخبار بما يعني ان لكليهما سياسة مختلفة وذلك بعد ان تناولنا بالنقد بعض افتتاحيات الصحيفة فقيل للدكتور الخضر هارون ان editorial board منفصل تماما عن news board ولا يجمع بينهما جامع. وبعد نقاش مستفيض وساخن بعد اكثر من ساعتين قيل لنا ان مادة هذا النقاش ليست للنشر بل هي فقط لتعميق فهم المحررين لقضية السودان. وحدث نفس الشيء مع صحيفة واشنطون تايمز.
كانت فجيعتي اكبر وانا اقرأ عمود الاستاذ عثمان ميرغني
مصحوبا بخبر في الصفحة الأولي بالخط الأحمر تحدث فيه السفير البريطاني لمحرري الصحيفة عن رؤية بلاده لطبيعة تطورات الاوضاع في السودان.
ينقل عثمان ميرغني في عموده ان السفير البريطاني قال ان التطبيع لا يتم مع دولة منفردة بل مع المجتمع الدولي مشيرا الي ضرورة ترقية حقوق الانسان في السودان كشرط لازم لذلك. ويطرب عثمان ميرغني لتحرير هذه الروشتة وهو يعيد التأكيد عليها مبشرا انه لا توجد مؤامرة دولية علي السودان بل هو قصور ذاتي ظل ينبه له مرارا وتكرارا
ولو قال هذا الامر صحفي غير الاستاذ عثمان ميرغني بعلمه وتجربته وخبرته لهان الامر لأنه من المعلوم بالضرورة في الشئون الدولية وجود ازدواجية في المعايير. وان المؤمرات الدولية حقيقة مجردة وليست ادعاءً ساذجاً. يقول الصحفي البريطاني ماكس كيزر انه قرر الاستقالة من البي بي سي لانها استجابت لضغوط من اسرائيل لانه قال انه لم ير دليلا يؤكد مزاعم اسرائيل ،في ان حماس تستخدم المدنيين دروعا بشرية.
ولعل قراءة عجلي لكتاب الصحفي بوب وودورد ( الحجاب) The Viel كفيل بتأكيد وجود مؤامرات دولية أطاحت بحكومات في امريكا اللاتينية والشرق الأوسط واستطاعت ان تخلق كيانات من العدم وزرعها في خارطة الشرق الأوسط.
يكفي كذلك مجرد الاطلاع علي التقرير الخاص الذي كتبته ربيكا هامبتون ونشرته رويتزر لتقف علي حجم المؤامرة التي خططت لفصل جنوب السودان.
ان خارطة الشرق الأوسط الراهنة اكبر مؤامرة دولية رعتها بريطانيا من خلال سياستها الاستعمارية ، ولا تزال تعزز هذه الخارطة من خلال سياساتها الراهنة. ماذا يعني سكوت البرلمان والصحافة البريطانية عن صفقة سلاح مشهورة لان رئيس وزرائها قال ان مناقشتها او عرضها علي المحكمة سيضر بالمصالح البريطانية العليا . رحم الله الطيب صالح الذي ظل يردد حديث أستاذه ان القانون الدولي هو محاولة لتقنين اوضاع فرضت بالقوة القاهرة .
هل يجروء اي سفير بريطاني في بعض عواصم دول الإقليم ان ينتقد اوضاع حقوق الانسان وهو يعلم ان السودان رغم التحديات و القصور في هذا المجال يعتبر نموذجا متقدما مقارنة بهذه الدول التي يعتبر ان مجرد الحديث عن حقوق الانسان في حد ذاته ترفا. ولعل السبب اضافة لاسباب اخري ان الصحافة في هذه الدول لا تتهافت لنقل احاديث السفراء التي تنتقد الاوضاع في بلادهم وتقدم لهم دروسا مجانا في الوطنية.
يعتبر هذا النهج الذي اختارته بعض الصحف ذراعا فاعلا في أدوات الدبلوماسية العامة public diplomacy و تتحول الصحافة بذلك من اداة محايدة لنقل المعلومات و تبصير الرأي العام الي جهاز دعائي للدبلوماسية العامة لخدمة مصالح بعض الدول.
بفضل هذه المحاضرة او حلقة النقاش التي استضافتها ( التيار) عرفنا انه لا توجد مؤامرة دولية علي السودان ، لان العالم يعج بالملائكة الطاهرين وان جيوش الدول ومخابراتها ودبلوماسيتها ومؤسساتها المختلفة تعمل علي تعليمنا أسس ومبادئ الانسانية واللحاق بركب بالحضارات المتقدمة وانتشالنا من ظلام الجهل الي نور العدالة والحريات.
لو كنت مسئولا عن امر الصحافة لاصدرت فرمانا اداريا يعيد بموجبه الاستاذ عثمان ميرغني قراءة كتاب (كرري ) لعصمت حسن زلفو ، حتي يدرك ان فروة الخليفة عبد الله في ام دبيكرات تلطخت بدمائه الطاهرة لأنه لم يتخرج من اكسفورد وانه لم يدرك معني مؤامرة دولية وانه اضاع فرصة ان يفتح ابوابه لرسل الحضارة الانسانية دون قتال او دماء لان الخليفة لو اهتم فقط بصون حقوق الانسان لما تكفل بكتابة رسالته الهامة المزعومة الي جلالة الملكة يطلب منها ان اسلمت ان تتشرف بزواج يونس ود الدكيم.
و يكفي لود الدكيم ان يمر علي اي كوافير في سوق الخرطوم لتحسين هيئه وتصفيف شعره وتشذيب لحيته اذا كان شكله العام لا يليق بالمقام الملكي الرفيع. ويمكن ان يستعمل مساحيق تفتيح البشرة مع ضرورة الابتعاد عن ماركة ( صنعت في الصين).

بقلم
خالد موسي دفع الله

‫2 تعليقات

  1. هذا هو الراي الحر الذي يعبر عن الوطنية وليس العمالة للدول من صحفيين كثر وضاعت الصحافة وضاع الوطن بسببها اين وزارة الثقافة من هذا المقال واين صحفيي الغفلة في زمن صار الكل يلهث لارضاء من يدفع له ولو على حساب الوطن

  2. ما تفضل به السفير من تفنيد لما يهطرق به الأستا عثمان ميرغني يرقي الي الخيانة الوطنية لصحفي لا يعرف أبجديات الصحافة و حدود و نطاق يراعه و الخطوط الحمراء التي يجب أن يلقي العقوبة التي تتناسب و جرمه.