هزائم متوالية ومتتالية
أعترف بأن معظم معارك صدام الحضارات التي خضتها خلال زيارتي الأولى للندن كنت أنا فيها الخاسر، وكانت بداية الهزائم فضيحة التعامل مع السلم الكهربائي في مطار هيثرو، ثم الدخول في ملاسنة مع جهاز تسجيل هاتفي وأنا أحسب أن فتاة تستخف بي وتكرر نفس الجملة وأنا ألقي عليها سؤالا محددا.
وتحدثت في مقالي هنا أمس عن الحمام المحمر الذي تناولته في بيت الدبلوماسي الصديق فاروق عبدالرحمن في لندن، وقد انتقمت في ذلك اليوم من الحمام، لأنني ورفاقي »تهزأنا« عند وصولنا إلى بيت فاروق، فقد كان يقيم في عمارة من عدة طوابق، ومدخلها الرئيسي مغلق، ولا حارس يفتح لك الباب، وبعد حيرة طويلة انتبهنا الى أن هناك عدة أزرار قرب الباب الرئيسي، ولكن أيهما يخص فاروق، فقلنا نجرب وضغطنا على الزر الأول والثاني والسابع وفي كل مرة يأتينا الرد: معك وينستون تشيرتشل.. من الطارق؟ معك ستيف أوستن.. معك ريتشارد قلب الأسد.
ويبدو أننا ضغطنا نفس الزر أكثر من مرة لأننا تعرضنا لشتائم من العيار الثقيل، فانسحبنا ولجأنا إلى هاتف عمومي واتصلنا بفاروق: نحن أمام بيتك ولو عزومتك وهمية خليك صريح معنا عشان نرجع بيوتنا، فطلب منا أن نقرأ اسمه أمام أحد الأزرار ونضغط عليه ليفتح لنا الباب، ثم نصعد إليه في الشقة في الدور الخامس، فقلنا له: يفتح الله.. نحن تعرضنا للشتائم بسبب أزراركم تلك، والأصول هي ان تستقبل ضيوفك عند الباب، فطلب منا مهلة قصيرة وجاء وفتح لنا الباب، بعد أن شرح لنا أن من إجراءات الأمن أن يكون لكل شقة زر متصل بالباب الخارجي، فيضغط الزائر على الزر، وما ان يعرف صاحب الشقة من الزائر حتى يضغط بدوره على زرّ في شقته فينفتح الباب الرئيسي، وكانت تلك المرحلة الخامسة من هزائمي في معارك صدام الحضارات، بعد السلم الكهربائي وقطار الأنفاق والاستحمام في حمامات بلا أبواب والتلفون بالرد الآلي.
كتبت كثيرا عن السوداني الذي كان يقيم في لندن، وكان مثلي يعشق لحم الحمام، وكان يشغل منصبا رفيعا ويقيم في شقة فخمة )ولا بأس في إعادة سرد حكايته(. وكانت تصله شحنات متقطعة من الحمام المجمد من السودان، ولكن رجال الجمارك كانوا ينظرون إليه بتقزز كلما ذهب إلى المطار لتسلمها وكأنه من أكلة لحوم البشر، ففكر صاحبنا في طريقة تجعله يحصل على ما يحتاج إليه من لحم الحمام بانتظام، فوضع عدة صناديق من الكرتون على بلكونة شقته التي كانت قريبة من وسط لندن التي يحتلها الحمام الذي يتخذ من ميدان ترافلقار قيادة قومية، وصار ينثر الحبوب حول الصناديق ونجح في استدراج أعداد كبيرة من الحمام، وشيئا فشيئا رفع الحمام التكليف معه وصارت الحمامات الحوامل يتخذن من تلك الصناديق عنابر للولادة.. يضعن البيض.. يفقس البيض.. ويكبر فرخ الحمام وقبل أن تصبح قادرة على الطيران البعيد المدى يهجم عليها صاحبنا ليلا، ويذبحها ويمضي عدة ساعات يقطع ريشها إلى قطع صغيرة. وكان في بداية الأمر يصبّ الريش في دورة المياه ويدفع به إلى شبكة المجاري، ولكنه خشي أن يتسبب الريش في انسداد في أنابيب المجاري الخاصة ببيته، فيأتي السباك ويكتشف أن سبب الانسداد ريش الحمام وتبقى فضيحة، وخاصة أن الجيران كانوا ينظرون إليه باحترام زائد باعتبار أنه ذو قلب حنون يؤوي الحمام ويطعمه لوجه الله، فصار من ثم يوزع الريش والقوانص في أكياس صغيرة ويخرج ليلقي بها في مكبات القمامة في أنحاء مختلفة من المدينة.
وبيني وبين حمام لندن الذي يتخذ من ميدان ترافلغار مقرا دائما ثأر، سأتعرض لمسبباته بإذن الله لاحقا، وقد جبر خاطري لاحقا مجلس بلدية لندن، وطفش الحمام من ذلك الميدان.
زاوية غائمة
جعفـر عبـاس