رأي ومقالات

حكومة الاعتذارات الجديدة .. قراءة أولى

في تلك الساعة من نهار الإثنين بدا الرئيس البشير مثل عالم الوراثة النمساوي “يوهان مندل” و هو يلقح أزهار حديقته ويتأمل نسلها، بينما اكتفى رئيس مجلس الوزراء الفريق بكري حسن صالح بضآلة التكليف، وهو على ما يبدو لا يريد أن يتورط أكثر في مزرعة ألغام السياسة والحكم، في الوقت نفسه لم يكن أمام مساعد الرئيس دكتور فيصل حسن إبراهيم من خيار سوى الاعتذار عن رحلة الجنينة المُعدة سلفاً لإفتتاح العمل الصيفي . شيء ما يجري خلف الكواليس، الساعة تقترب من السابعة مساءا، الموعد المقرر لظهور أحدهم لإعلان الحكومة الجديدة، ولكن الرغبة في تجنب الأسئلة الحرجة أثرت أن ينتهي الإعلان بمراسيم جمهورية .

في الحقيقة لم تُفلح كل حُقن الطلق، وحتى بعد أن هز المكتب القيادي إليه بجزع النخل لتصرخ المولودة المنتظرة، لم تصرخ كأنها ميتة. شيئاً فشيئاً يبرق عنوان السهرة، عالم الأزياء الصارخة في شارع المطار ونواحي القصر العتيق، البدل الأنيقة والعمائم المطرزة تكافئها موجة اعتذارت غامضة ( دكتور مضوي إبراهيم ومحمد حاتم سليمان وعلي كرتي والفريق الهادي) .. ينتهى اليوم بمعضلة تجهيز البدائل.

كان محمد حاتم يأمل في زفة تليق به إلى قصر الحاكم بولاية الخرطوم، وقد أعد (زيرو) برامج متعددة الأصفار لبلوغ ذلك الحلم، ولم يكن يفكر على الإطلاق في أن تنتهي به التصاريف بعيداً عن المقُعد الذي عمل له بإخلاص خلال عامين . وإن كان مفهوماً اعتذار الدكتور مضوي إبراهيم، لأن التجربة السودانية ربما لا يمكن أن تستنسخ قصة سيدنا يوسف عليه السلام (من الزنزانة إلى القصر) أو بالأحرى لا يرغب الرجل في أن يخيب ظن المتضامنين معه ورهط المنظمات الحقوقية التي تريد أن تحتفي دوما بنقائه المعارض للسلطة .

إلا أنه كان مربكاً اعتذار علي كرتي، في الحقيقة كان مربكا أن يعتذر أحد أشهر حراس النظام وإبن سرحته الذي غنى به، ضاربا عرض الحايط بالمقولة التنظيمية الشهيرة (إنها تكليف وليست تشريف) وقد كان ترشيحه أشبه بالمفاجأة الداوية، إذ يبدو أن القصد منها ضمان ولاية المركز وعينه على الساحل الذي تتراقص حوله المطامع الاقليمية، كل المطامع، هذا بخلاف أن الولاية أصبحت قِبلة للاستثمار التركي والقطري والإماراتي، بورتسودان وسواكن المدللة، كل يخطب ود البحر الأحمر في سباق محموم من أجل النفوذ والسيطرة على الموانئ. كما أن تخوم ولاية كرتي المعتذر عنها تنتهي في حلايب وشلاتين المحتلتين، وهذا يجعلها عرضة لتأمر وذات خصوصية يستلزم الوضع فيها رجل من الصقور التي تجيد حراسة الثغور، ولربما يعني اعتذار كرتي أحد احتمالين، خيبة الأمل في العودة لقيادة الدبلوماسية أو أنه لا يرغب في تكبد مشاق السفريات الداخلية والجلوس بين يدي من يصغره سنا وتجربة، حامد ممتاز وزير ديوان الحكم الاتحادي .

مضمخاً بالشدو الرحباني ينبعث صوت فيرز من نافذة العرض الستيني (يجي مختار ويروح مختار والسيارة موش عم تمشي) فهل جاء الاختيار هذه المرة بغير موافقة الاحتياج والمِزاج العام؟ الشارع مشغول بالصفوف المتناسلة و(قفة الملاح) وفاكهة الفقراء القابعة في مخازن كنانة والجنيد، يقطع الكابلي من مهجره الأمريكي سكون الخرطوم ويغني قبل رمضان( سُكر سُكر وحاة عيني سُكر).

شارع النيل مفرغ تماماً من البهجة والمرح و(ستات الشاي) لكنه محتشد بالوزارات التي تتقاتل عليها الأحزاب والحركات المسلحة والقبائل الساعية للمجد. معتز موسى يحافظ على مقعده ولا يحافظ على استقرار التيار الكهربائي، الأزمة الاقتصادية ومعادلات الندرة والسوق الأسوق يغذي شرائين الشارع العام بالإحباط، أين الأزمة أين مكانها؟ ألم يكن من الأفضل ايقاف النزيف قبيل مسح بلاط عنبر المرضى وتزيينه بالمفارش؟ يسأل صحفي لم يحظى بمرافقة الزملاء إلى المملكة العربية السعوية، على ذلك النحو الانتقائي، فيجيبه (الكمساري) حِلة جديدة حِلة جديدة على عشرين، يعيدها الصدى حكومة جديدة حكومة على عشرين .!!
من كورنيش البحر الأحمر تلوح باخرة (النيل الأبيض) بالوداع، سوف تقضي شيخوختها بعيداً عن صخب المواني والنوارس والفنارات، وتنام أخيراً في حضن تاجر خُردة هندي .

في شارع المين كان كادر المؤتمر الشعبي ينادي بصوت هادر “من دخل وزارة المالية فهو أمن، من توغل في البنك المركزي فهو أمن، من اندغم ونسى كل شيء فهو أمن” وهنا لا أحد يعرف لماذا لم يتم تغيير الطاقم الاقتصادي وهو الذي يتحمل الوزر الأكبر، فمن صنع الأزمة إذا ؟ هل سوف تشيخ فينا وجوه وزراء أحزاب الحوار الوطني؟ ومتى سوف يطلق محمد أبوزيد المصطفى سراح وزارة السياحة والأثار وهو الذي قضى فيها ردحا من الزمن دون أن يفعل شيئاً وألبسها جلباباً قصيراً؟ هل تقزمت أحلامنا إلى درجة أن نتمنى فقط حكومة لا يكون فيها أحمد بلال عثمان؟ إنها الأسئلة التي تفضي إلى إضمامة من الأسى .

من ملفات التفاوض والمقال الأشهر (الاتفاقية السودانية السعودية أضاعت كنز البحر الأحمر لكنها قد تسعفنا في حلايب) دخل رجل القانون والسياسة الدرديري محمد أحمد ردهات وزارة الخارجية، وقد انحصرت الخيارات بعد بروف غندور بين معتز موسى ومطرف صديق والدرديري، إلا أن معتز ليس من السهولة الاستغناء عنه في السدود والكهرباء، وقد خبر وأجاد التعامل مع مفاوضات سد النهضة، وهى قضية ببعدها القومي أي مغامرة بشخص أخر سوف تفقد السودان الكثير من نقاط التفوق فيها. وبما أن الدرديري بعد عن الأضواء والعمل التنفيذي نسبياً فقد أًسند ظهره بالدكتور أسامة فيصل وزير الدولة بالاستثمار، ليصبح وزيراً للدولة بالخارجية، وأكثر ما عزز حظوظ أسامة قدراته المخبوءة وعمله في لجنة التفاوض مع أمريكا، ليمضي معها إلى نهاية الشوط، عوضا على أنه سوف يسهم في دعم الاستثمار الخارجي بعلاقته والمامه بتفاصيل ملف الاستثمارات الخليجية والتركية.

ولعل أخطر ما فى هذه الحكومة الاحتفاظ بولاة ولايات ثارت عليهم ثائرة البعض، سواء كانت مجالس تشريعية أو قوى فاعلة تعرضت للتهميش، مثل أحمد هارون في شمال كردفان وجماع في كسلا وايلا في الجزيرة وعبد الرحيم في الخرطوم، هؤلاء تحديدا اشتهر بعضهم بالحدة والصراعات، وهى ميزة وإن كانت مطلوبة في وقت ما إلا أنها سوف تتسبب في خسارة الحزب الحاكم للانتخابات المُقبلة، وهنا أعني والي الجزيرة محمد طاهر ايلا، الذي أدخل الولاية في دوامة من الصراع والنزيف والموات لا يمكن بسهولة أن تتعافى منه، ومن المتوقع أن يقدم ايلا استقالته بعد الابقاء عليه، لأن كل حيله انتهت، وقد أغرق الولاية في ديون وأزمات كان يريد أن يسدد فواتيرها من يأتي بعده، عوضاً عن أنه لم يتطلع بالأساس إلى ولاية الجزيرة، وهى أقل من طموحاته واحتملها ريثما تلوح فرصة حكومة جديدة، حا قد لاحت اليوم .

عزمي عبد الرازق

تعليق واحد