بين علي الحاج والجنوب والفيدرالية
عجبت لتصريح ورد على لسان د.علي الحاج أمين عام حزب المؤتمر الشعبي حيث قال (إن اتفاقية نيفاشا لم توقف الحرب بجنوب كردفان وتحقق السلام وإنما فصلت الجنوب)!
لست أدري هل فات على الأخ علي الحاج أن اتفاقية نيفاشا لم تبرم لوقف الحرب في جنوب كردفان وإنما لإنهائها بين الشمال والجنوب بعد أن أهلكت الحرث والنسل وتسببت في تخلف السودان وفي الاضطراب الذي اكتنف المشهد السياسي منذ الاستقلال؟!
يعلم الجميع أن الحرب بين الشمال والجنوب انفجرت منذ تمرد توريت في عام (1955) أي قبل الاستقلال وخروج الإنجليز من السودان وما كانت ستتوقف لولا الانفصال بين الدولتين حتى ولو بعد مائة عام.
ما أن حدث انفصال الجنوب عن الشمال الذي كان العداء له يوحد بين الجنوبيين حتى دبت الخلافات القبلية التاريخية بينهم واشتعلت الحروب الدموية بين القبائل بقيادة زعماء ونخب الجنوب .. د.مشار (النوير) وسلفاكير (الدينكا) ولام أكول (الشلك) وغيرهم وغيرهم .. وبلغ العداء بينهم درجة أكل لحوم موتاهم حقداً وتشفياً مما أشرنا إليه في مقالات سابقة ذكرنا فيها الوقائع الموثقة.
لقد أثبتت الحروب المشتعلة بين الجنوبيين أن من عجزوا عن التوحد داخل وطنهم نظراً لعدم وجود هوية مشتركة تجمع شتاتهم أعجز عن أن يتوحدوا مع عدوهم المشترك (الشمال) الذي غادروه بالإجماع عندما اتيحت لهم الفرصة باستفتاء تقرير المصير .
أود أن أذكر د.علي الحاج بأن الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق ما كان ينبغي أن تستمر لولا غفلة من سمحوا بانسحاب الجيش السوداني من طرف واحد من الجنوب بدلاً من انسحاب جيش الجنوب بالتزامن بل وترسيم الحدود.
هل يعلم علي الحاج أن مؤتمر جوبا عام (1947) الذي قيل إنه شرعن الوحدة بين الشمال والجنوب كان مجرد كذبة بلقاء سيما وقد اتضح فيما بعد أن السكرتير الإداري جيمس روبرتسون الذي نظمه ليقنن الوحدة ويمنحها مشروعية أخلاقية ، قد خدعنا بالرغم من أن مما يحمد له أنه اعترف في مذكراته لاحقاً أنه زور إرادة الجنوبيين الذين كانوا في الحقيقة يرغبون في الانفصال؟! وهل يعلم أن النخب الجنوبية مثل أبيل ألير وبونا ملوال احتفوا باعتراف روبرتسون أنه زور مؤتمر جوبا ووثقوا ذلك في كتبهم (التمادي في نقض العهود لأبيل ألير)؟.
هل يعلم علي الحاج المتحمس حتى الآن للحكم الفيدرالي أنه لم يطلب الفيدرالية من الجنوبيين سوى فصيل من حزب سانو كان يقوده وليم دينق وأن الفصيل الآخر من نفس الحزب (سانو) بقيادة أقري جادين كان يؤيد الانفصال وقد انسحب من مؤتمر المائدة المستديرة عام (1965) بعد أن قال كلاماً عنصرياً بغيضاً ليس هذا مجال ذكره؟
أقول للأخ علي الحاج إن أكبر أخطاء الإنقاذ ، بالإضافة إلى نيفاشا ، يتمثل في الحكم الفيدرالي الذي أوشك أن يمزق السودان إرباً بعد أن أنهكه اقتصادياً وأن السودان – عند إقراره وإنفاذه – ما كان مهيأ له البتة لا من حيث قدرة المركز والولايات على تحمل تعباته الاقتصادية ولا من حيث تهيؤ السودان من حيث توحد نسيجه الاجتماعي على هوية مشتركة تعلي الوطن على حساب القبيلة والجهة والانتماءات الصغرى الأخرى.
لا ينتطح عنزان في أن النظام الفيدرالي يقتضي توافر إمكانات وموارد اقتصادية هائلة نظراً لكلفته الباهظة بل يقتضي توافر تماسك اجتماعي وهوية وطنية مشتركة تجمع بين المواطنين فهل كان السودان كذلك حين أقدم القائمون على الأمر على إنفاذ النظام الفيدرالي بالشكل المعمول به حاليا؟
بالقطع لا .. فقد كان السودان ولا يزال موبوءا بالاضطراب السياسي والحروب والنزاعات التي أضعفت اقتصاده وبالقبلية التي يعلو الولاء لها على الولاء للوطن الأم وللأسف الشديد فقد أقدمنا رغم ذلك على تلك القفزة المجنونة على الهواء بل سخرنا الحكم الفيدرالي لتكريس الانقسام على أسس قبلية وجهوية وجاءت المحاصصات القبلية والجهوية في اختيار من يتولون المواقع التنفيذية والدستورية لتزيد من التمزق وتعزز من دور الولاءات الصغرى على حساب الانتماء الوطني ولذلك كانت الفيدرالية وبالاً على بلادنا فقد أدت إلى إضعاف الوحدة الوطنية بدلاً من تعزيزها.
أما تطبيق الحكم الفيدرالي بالرغم من ضعف الموارد على مستوى المركز والولايات فقد كان هو الخطيئة الكبرى الأخرى سيما وانه يقتضى جيوشاً جرارة من الدستوريين في الشقين التنفيذي والتشريعي وعجزت الولايات عن توفير موازنات لمقابلة الفصل الأول ناهيك عن توفير التنمية كما عجز المركز عن تمويل مطلوباته في الأمن والدفاع والخدمات وفي إعانة الولايات في مهمة تحقيق التنمية.
نعم ، لقد كان الحكم الفيدرالي قفزة مجنونة في الهواء وللأسف أصبح التراجع عنه صعباً لأسباب معلومة يطول شرحها.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة