الدولار لم يعد وحده العدو الأوحد للحكومة في السوق السوداء، فالوقود أصبح سلعة سريَّة في الولايات
-1- أخبرني مسؤولٌ بولاية الخرطوم، أنَّ العاصمة الآن، تستهلك ثلاثة أضعاف حصَّتها المُعتادة من الوقود.
قلت له: هل تعرف السبب حتى يبطل العجب؟!
حالة الهلع التي بثَّتها الأزمة وسوء الإدارة لها، أفقدت المُواطنين شعورهم بالأمان، فمن كان تكفيه أربعة جوالين من الوقود أصبح لا يشعر بالطمأنينة، إلا إذا ملأ خزانة سيارته، وعين أخرى على (الجركان).
والذي تعوَّد على ملء (التنك) بات لا يشعر بالأمان، إلا إذا احتفظ ببرميلٍ أو اثنين في فناء بيته، ونام بجوارهما حتى يشعر بالاطمئنان.
من يفقد الشعور بالأمان، يفقد مُتعة الحياة، يبني حساباته على أسوأ السيناريوهات؛ فتكون ردود فعله مُتطرِّفة وخارج دائرة المألوف، ويُصبح على قول أبو آمنة حامد: (يعيش في شَكُّو أكتر من يقينو).
-2-
كان يمكن أن تُعتبر أزمة الوقود الأولى طارئةً وعابرة، فلا يكون هناك خوفٌ يدفع تجاه الإفراط في حيازته والهوس باقتنائه.
ولكن تكرار الأزمة في مدى زمني قصير، هو الذي ضاعف من حالة الهلع، وزاد مُعدَّلات الحيازة غير الضرورية للوقود.
في روايته الخميائي ذكر الكاتب العالمي باولو كويلو حكمة ناصعة: (ما يحدث مرَّة يُمكن ألا يحدث ثانيةً أبداً، لكن ما يحدث مرَّتين يحدث بالتأكيد مرة ثالثة).
-3-
في وضع اقتصادنا، من الطبيعيِّ أن تكون هناك أزماتٌ في بعض السلع الحيوية؛ لكن المهم أن تكون جهات الاختصاص قادرةً على إدارة الأزمات.
المنطق يقول: إذا فشلت في تجاوز الأزمة، فعليك أن تنجح في إدارتها بصورة تحِدُّ من إفرازاتها وتُحاصر مُترتِّباتها السالبة في الحدود الدنيا.
من المهارات التي كانت مُتوفِّرة للحكومة، في تجربتها المديدة، مقدرتها على إدارة الأزمات والخروج منها بأقلِّ الخسائر. أزمة الوقود الراهنة وشح النقد الأجنبي، أظهرت أن تلك المهارة لم تعد في جودتها وفاعليتها المعهودة.
-4-
أخطأت جهات الاختصاص حينما فكَّرت في سدِّ حاجة محطَّات الوقود بالعاصمة، حتى أصبحت تأخذ أضعاف ما كانت تأخذه في السابق.
من الواضح أن ذلك الاهتمام مردُّه لاعتبارات سياسية، تُراعي حساسية الخرطوم، كعاصمة وواجهة للدولة. في مقابل ذلك أهملت الولايات، فأُصيبت الحياة فيها بالشلل وجفَّت شرايين الاقتصاد.
زيارة استكشافية لمحطات الوقود بالخرطوم، ستجد أن كثيراً من السيارات زحفت إليها من الولايات، فحدث نقيض ما كانت ترغب في تحقيقه السلطات.
ازدادت الأزمة اختناقاً، حتى أصبحت تُمثِّل خطراً سياسياً ومُهدِّداً أمنياً، وتشوَّهت الواجهة الحضرية للعاصمة.
-5-
وفي الأزمات واعتكار المياه ينشط الصيد الجائر واقتناص الفرص بانتهازية طفيلية، وتزدهر الأسواق السوداء، فمصائب قومٍ فوائدُ آخرين.
بعض سيارات النقل العام أصبحت تجارة الوقود أفيد لها نفعاً، من ترحيل الرُّكاب؛ فالأفضل للسائق أن يقضي غالب يومه بمحطات الوقود بمجهود قليل وربح أوفر.
سيارات أصبحت لها خزائن وقود إضافية لزيادة الكيل وتوسيع الربح.
الآن لم يعد الدولار وحده العدو الأوحد للحكومة في السوق السوداء، فالوقود أصبح سلعة سريَّة في الولايات.
حتى الدواء أصبحت له سوق سوداء عبر تُجَّار الشنطة، ومع إمساك السيولة وتحجيمها وتجفيف الصرافات وتقليل السحب من البنوك، أصبحت النقود سلعة تُباع وتُشترى.
-6-
ما هو ماثل الآن، يُعتبر أكبر مُهدِّدٍ للدولة السودانية، هذه الأجواء لا تُستغلُّ فقط من التُّجَّار الجشعين؛ ولكن من المُتآمرين وأصحاب الأجندة الخفية والطموحات الشاذة.
المُقلق أن التفاعل مع الأزمة بكُلِّ أبعادها على المستوى الرسمي، أقل مما يقتضيه الحال، فالعيون شاردة والأصابع مُرتخية والإحساس ضعيف، كأن الرهان يتم على قوى غيبية في ظهر الغيب أو على تصاريف الأقدار وما يأتي به الزمان.
لا داعي لخطابات اليأس والتحبيط والشماتة، فهناك فرصٌ لتجاوز الراهن بكل ما فيه من صعوبات وتعقيدات، وتحقيق ما هو أفضل وكفِّ خطر المُهدِّدات، بكثيرٍ من التعديلات والقرارات الجريئة وأفكار خارج الصندوق.
-أخيراً-
السيد رئيس الوزراء:
نُقدِّر لك إحساسك بآلام المُواطنين الذي عبَّرت عنه في البرلمان أمس، لكن هذا لا يكفي.
لا بد من تنشيط السعي لحل الأزمات بصورة مُرضية للمواطنين ومُقنعة لهم،وربما على الحكومة أن تشد الحزام إلى آخره، حتى لا يسقط البنطال.
ضياء الدين بلال