استشاري الموت.. مهنة جديدة في هولندا
يتذكر العجوز الهولندي يان تن كيت (78 عاما) معاناة زوجته التي توفيت منتحرة بعد صراع طويل مع مرض أصاب رئتيها وسبب لها معاناة وآلاما شديدة. يقول يان “كنت أخاف من الموت بشكل كبير، لكني بعد أن توفيت زوجتي شعرت أن الموت أمر سهل جدا. أريد أن أتخذ قرار موتي بكامل إرادتي، ولا أريد أن أموت بالسر كما فعلت زوجتي، ولا أريد أن أتخذه بناء على عجزي. علينا ألا نسمح لشيء آخر بالتحكم في حياتنا، وعندما نقرر التوقف عن العيش، فيجب أن نفعل ذلك في العلن لا في السر”.
قصة يان تن كيت ليست هي الوحيدة التي اكتفت “الجمعية الهولندية لإنهاء الحياة طواعية” (NVVE) بعرضها على موقعها الجديد الذي أطلقته تحت عنوان “الحياة التامة” ضمن حملتها الداعمة لموقف الحكومة الهولندية، التي طرحت مؤخرا مشروع قانون غريبا من نوعه ومثيرا للجدل يعتبر اختيار الإنسان للحظة موته حقا يكفله القانون. فهناك قصص أشخاص آخرين قرروا فعلا اختيار لحظة موتهم وعدم انتظار وفاتهم الطبيعية.
بحسب رأي الجمعية، فإن الهولنديين تلقوا خبر تزايد متوسط أعمارهم بردود فعل مختلفة، فعلى الرغم من أن هذا الخبر سار، فإنه لم يكن كذلك لجميع الهولنديين، فنوعية الحياة التي يعيشها كبار السن فيها تنوع كبير، فمنهم من لا يريد انتظار موته وإنما تقرير تلك اللحظة بنفسه.
رئيس ومؤسس الجمعية الهولندية لإنهاء الحياة طواعية الدكتور روبرت سخيورنك يقول إن “فكرة المشروع ليست جديدة تماما فقد كانت مطروحة على طاولة البحث منذ مئتي عام مع رؤية كبار السن الذين يقررون إنهاء حيواتهم بأنفسهم، وقد ظهرت فكرة القانون الجديد منذ حوالي عشر سنوات بعد أن أقرت الحكومة الهولندية قانون الموت الرحيم لمن يعانون من أمراض مستعصية وآلام شديدة، لكن القانون لم يشمل جميع المسنين، بل من لديهم أمراض فقط”.
ويضيف سخيورنك للجزيرة نت “لذلك بدأ المسنون الأصحاء الذين يعانون من آلام نفسية وروحية ويعتقدون أن دفتر حياتهم قد انتهى ووصل إلى صفحة النهاية، بالمطالبة بمنحهم الحق في اختيار إنهاء هذه الحياة بشكل قانوني وشرعي، وأن لا يلجؤوا إلى الطرق الملتوية، فهم يرغبون في المساعدة لنيل موت مشرف، كما يقولون”.
ويؤكد أن الحكومة الهولندية لم تكن راضية عن تقرير شنابل، لذلك أعادت طرح الموضوع مرة أخرى في البرلمان. و”قامت جمعيتنا بدعم موقف الحكومة وزودتها بتواقيع 116 ألف شخص يطالبون بإقرار القانون الجديد، لأنها اكتشفت أنه إذا لم تقر هذا القانون فإن الناس سوف يقومون به بشكل غير قانوني، وربما يتسببون بمشاكل أكبر من ذلك بكثير وبحوادث خطيرة”.
ولدى سؤاله عن السن المستهدفة من هذا القانون، يقول سخيورنك إن “مشروع القانون الجديد يستهدف فئة المسنين ممن يعانون من الإحساس بانتهاء حياتهم وليس لديهم أي شيء جديد ليقوموا به سوى انتظار الموت، أما الشبان والفئات العمرية الأخرى فليسوا مشمولين بهذا القانون تحديدا. فالحكومة تعتقد أن هؤلاء يجب أن ينالوا علاجا جيدا، وأن يتم إيلاؤهم اهتماما أكبر من جمعيات ومؤسسات أخرى”.
إيلس فان دوجين واحدة من كبار السن الذين يجدون في الموت الطوعي نهاية مريحة لحياة الوحدة (من موقع الحياة المنتهية)
وعن جمعيته وأعضائها، يشدد سخيورنك على أنها تعمل على تلبية رغبة الكثير من المواطنين الهولنديين في إنهاء حياتهم عندما تصل إلى نقطة عدم العودة، أو بتعبير آخر “الحياة المنتهية”، هؤلاء من يحصلون على المساعدة من الجمعية، إذ يجلس معهم الاستشاري والطبيب ويدرسان كل حالة جيدا حتى يستطيعا اتخاذ قرار الموافقة على موتهم، ثم يتم تحديد موعد يختاره طالب الموت الطوعي لتنفيذ هذا الأمر، ويأتي الطبيب والمساعد ويعطيانه الجرعة القاتلة، ويتأكد من أن رغبته قد تحققت بالموت كما يريد.
وعن خلفيات التدين لدى الراغبين في الموت، يقول إن “هناك الكثير ممن لديهم دين واعتقاد وإيمان بالله، ولكن كان دائما جوابهم لدى مناقشتهم في الأسباب التي تستدعي طلبهم أنهم بعد هذه السنوات الطوال تصالحوا مع الله وسألوه وطلبوا المغفرة منه، وأنهم مقتنعون بما يفعلونه. قد لا يروق هذا لمجتمعات متدينة كالعالم العربي مثلا، لكن الأمر مختلف في هولندا، فنحن لدينا الفصل بين الدين والدولة في التشريعات، ولدينا الكثير من الأشخاص الذين لا يؤمنون بشيء، وهذه تعتبر حريات شخصية. وما يعتبر أمرا غريبا في بعض البلدان يكون أمرا عاديا في أخرى”.
ولدى سؤاله بوصفه رئيسا لجمعية المساعدة على الموت إن كان سيقرر الموت بهذه الطريقة، قال “أجل، فقد حدث في عائلتي منذ عام 1998 حادث مماثل، حيث قام جدي بجمع كل الأبناء والأحفاد وأعلمنا أنه يريد الموت بعد ثلاثة أسابيع، وأنه قرر وضع حد لحياته، لأنه كان يعاني الكثير من الألم ولا يريد إطالة حياته أكثر من ذلك. في حينها حزنت كثيرا وافتقدته كثيرا، لكن يوم وفاته كان حدثا رائعا، لأن الجميع كانوا حوله، ولم يمت وحيدا وكان سعيدا وراضيا قبل مماته”.
ووفق إحصائية نشرها المكتب المركزي للإحصاء في هولندا، فإن عدد حالات الانتحار تضاعف مرات عدة في القرن 21، فقد سُجلت 1871 حالة انتحار في عام 2015، في حين سجلت 559 حالة عام 1950.
والغريب أن نص مشروع القانون يعتبر الانتحار جريمة جنائية، ومن يساعد شخصا على الانتحار يعد مجرما، لذلك على الراغب بالموت أن يطلب المساعدة من مختصين وأطباء ومستشارين قانونيين ومعتمدين رسميا، وهم من يقرر الأمر. وينص مشروع القانون على “تدريب مهنيين مختصين في المساعدة على الموت، وهم مستشارو مساعدة الموت”.
ورغم أن أعضاء من البرلمان اعترضوا على مشروع القانون معتبرين أن مثل هذه الأفكار التي تتملك شخصا ما لإنهاء حياته يمكن تبديدها من خلال إيلاء الناس اهتماما أكبر به وخاصة من كبار السن، على اعتبار أن الاكتئاب أو الوحدة ليسا سببا حقيقيا لإنهاء الحياة ويمكن تدارك ذلك ومعالجته بطرق أخرى، فإن البرلمان الهولندي أقر القانون بفارق بسيط في التصويت بين عدد المعارضين والمؤيدين، وتم رفعه إلى مجلس الشيوخ الذي تقع عليه الآن مسؤولية إقراره أو رفضه.
في هولندا اليوم من يرغب في الانتحار بمساعدة الآخرين ولديه أي هواجس بهذا الصدد يمكنه الاتصال على الرقم 113 للحصول على المساعدة والمشورة المطلوبة، وهو رقم خصصته الجمعية الهولندية للمساعدة على الموت الطوعي، لكن الكوميديا السوداء تكمن في كون رقم الإسعاف والطوارئ لإنقاذ حياة الناس في هولندا هو 112، أي بفارق رقم واحد بين الحياة والموت. كوميديا سوداء لا يمكن فهمها في بلد تملؤه التناقضات والتشريعات الغريبة.
المصدر : الجزيرة