قد نظلم عيالنا دون قصد منا
في يوم الثلاثاء 26 فبراير المنصرم، أصدرت جمعية الطفل البريطانية تقريرا يقول إن 10% من الأطفال في المرحلة الابتدائية يعانون من اضطرابات نفسية، وإن معظم الضحايا من الأسر الفقيرة!! لماذا؟ هم قالوا إن ذلك بسبب الإعلانات التجارية الخسيسة التي تعرض أمامهم شتى صنوف الملابس والألعاب والمأكولات، وتجعلهم يحلمون بعوالم وردية إذا ما اقتنوا هذه السلعة أو تلك. ولا يتفهم الصغار ان ظروف الوالدين المالية تسمح بالكاد بتوفير الطعام والمأوى وملابس لا علاقة لها بالموضة، ويذهبون إلى المدارس ويحتكون بنظراء يرتدون أحذية نايكي الرياضية ويحملون معهم أشياء إلكترونية »تهبل«.. عندما يعيش الانسان في بيئة تتساوى فيها ظروف الجميع بدرجة أو بأخرى فإنه لا يشعر بالحرمان ولكن الإعلانات التلفزيونية تقتحم بيوت الفقراء وتخرج ألسنتها لهم.
ولكن ما هو أنكى من ذلك أن بعض الأطفال قالوا إن سر تعاستهم أن أحد الوالدين أو كليهما لا وجود ملموسا لهم في تفاصيل حياتهم، وتذكرت حكاية السيدة المصرية التي سبق أن كتبت عنها عندما طلبت الخلع لأن زوجها يقضي كل وقته في البيت في القراءة، ثم صار سريع الهيجان كلما خاطبته زوجته أو إحدى طفلتيه في أمر عائلي، حتى لو كان ذلك الأمر على درجة عالية من الأهمية.
واعترف بأنني كنت، لحين من الدهر مثل ذلك الرجل، لا أكاد أبادل زوجتي أكثر من عشرين كلمة في اليوم، بسبب إدماني القراءة، بينما أنا عادة لا أميل إلى قضاء أي وقت خارج البيت إلا »للشديد القوي«، ولكنني كنت أتواجد في البيت بجسمي فقط و»بالي« مشغول بالكتب، وقلت إنني أحسست بالذنب ونلت تصريحا وتصديقا من أم المعارك بالقراءة لثلاث ساعات عقب عودتي من العمل، )ولكنني وإلى يومنا هذا أحتفظ بعدد من المجلات الأجنبية في حمام غرفة النوم.. والغرض من ذلك اختلاس دقائق إضافية من الفترة التي تعهدت بعدم القراءة خلالها(… المهم أنني تعرَّفت أكثر على زوجتي بعد ان خصصت معظم الأمسيات للونسة والدردشة العائلية، واكتشفت انها بنت ناس، وكرسنا أنا وهي ذلك التقليد بجعل عيالنا الأربعة ينضمون إلينا في الأمسيات، فنجلس كلنا على سرير الزوجية لبعض الوقت كل ليلة نسولف ونتآنس ونتغشمر ونهزر.. بل وعندما كان عيالنا صغارا، ننام نحن جميعا في غرفة النوم الرئيسية، خلال العطل الاسبوعية والعامة.. فتكون ليلة »مهببة« تتعالى فيها الصيحات بمجرد إطفاء المصابيح الكهربائية هذه تتهم أخاها بأنه شدها من شعرها، وذاك يتهم أخته بأنها حشرت إصبع قدمها عامدة في أنفه.
تلك التجربة مقرونة بتجربة السيدة المصرية جعلتني أدرك أن بيوت الزوجية ليست شركات فيها طرف يحمل نسبة أكبر من الأسهم، وبالتالي له صلاحية اتخاذ قرارات فردية أو تجاهل الطرف الآخر.. كتبت كثيرا عن الأزواج/ الآباء الذين يعودون إلى بيوتهم ويفرضون على عيالهم وزوجاتهم حظر التجوال ويصادرون حرياتهم في التعبير لأنهم ينشدون الراحة لساعات معينة.. لا بأس في ذلك.. ولكن أن تنام بعد عودتك من العمل وتغادر البيت يوميا لقضاء وقتك مع أشخاص آخرين، فيه كل البأس والغلط.
ولكن المحزن ان بعض السيدات -والنساء عادة أكثر التصاقا واهتماما بشؤون عائلاتهن- كثيرا ما يخصصن معظم أوقاتهن لأنفسهن أو لاهتماماتهن الشخصية.. التلفون والتلفزيون والسوق والزيارات التي لا تنتهي.. بعد مسيرة مهنية طويلة وشاقة تعلمت وأدركت أنني أعمل من أجل أسرتي وبالتالي ألا أجعل ساعات العمل خصما من الساعات المخصصة للأسرة.. ولا يحدث أكثر من مرتين في السنة أن أجلس في البيت لأداء عمل رسمي.. أعرف نساء كثيرات ناشطات في العمل العام من خلال جمعيات محترمة.. غالبيتهن ينجحن في التوفيق بين حياتهن العامة والخاصة، ولكن أقلية تتحمس للعمل العام حتى يبتلع كل وقتها.. والكلام موجه إلى إحدى قريباتي النشطات في العمل الخيري والتي كثيرا ما أقول لها إن نشاطها ربما يكون »منزوع البركة« لأنها تكاد أن تكون زائرة عابرة لبيتها وفي حياة عيالها.
زاوية غائمة
جعفـر عبـاس