الصادق الرزيقي

قُبة أحمد هرون ..

(أ)
دلق السيد رئيس الجمهورية المشير عمر البشير، وهو على منبر الخطابة ومنصة الحديث، معانٍ هيامية ميتافيزيقية آسرة، كأنه يجر مسندة السحاب إلى رأس التراب، وألقى بُردة صوفية قشيبة مزركشة الألوان على وجه السياسة،

مُجلياً جبينها بتوهج وسناً عرفاني عميق الجذر في الحياة السودانية، عظيم الأثر في تكوين الشخصية الوطنية بكل أبعادها الدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية، وذلك عندما أعلن أول من أمس، من الأبيض عاصمة شمال كردفان، وحاضن محلية شيكان، أمام الجماهير في احتفال محضور، أن الوالي مولانا أحمد هرون ( باقٍ في منصبه حتى تُبنى له قبة في مدينة الأبيض ) ، في إشارة الى حُسن الفِعْال وعظمة الإنجاز والخدمات الجليلة التي قدمها الوالي لولايته ومجتمع شمال كردفان، ولو لبست السياسة هذا اللبوس، وقاربت بما تعنيه كلمة (القبة) ودلالاتها ومغازيها، لكانت القباب الآن أعلى المنارات السياسية واستقامت ساس يسوس على الطريق..
فالقبة في الاعتقاد السوداني ليست ضريحاً، بل مرتبة وتنزُّلات أخرى لا تؤتى إلا لولي مُخبت، أو مُحسن مُخلص، أو فقيه عابد، أو عامل مُصلح، أو قائد راعى الله في رعيته، فخدمهم وأصلح حياتهم، ومهَّد لهم الطريق نحو الفلاح.
ولعل الرئيس لم يرَ شيئاً يكافئ ما فعله مولانا أحمد هرون، إلا أن يبقى في الناس والولاية والمدينة، ليكون من بعد عمر طويل- بإذن الله- قُبةً تُزار، ومعلماً يؤوب إليه الناس طلباً للطمأنينة ومنجاة من مزالق الدنيا وهمومها .. ولعل المقاربة فيها تنزيه للسياسة وفنون الحكم من غلواء خطاياها، وادغامها في عالم البهاء والتجرُّد والزهد والصفاء والرضا والطمأنينة والصعود، وأي مجد يجده الإنسان إن غاب عن الدنيا وبقي منه ذكر من هذا الذي تحتضنه القباب الخضر وهي تشمخ كما المآذن للسماء ..
(ب)
يعلم السيد رئيس الجمهورية، أن فتقاً في سماء كردفان انداح منه النور ملأ بشعاعاته الساطعة أباطح المنطقة وفلواتها، كان هو الطرق الصوفية وقبابها التي انتشرت في الجزء الشمالي من شمال كردفان ومدينة الأبيض، حيث لم تعرف مناطق كردفان ودارفور القباب والمزارات، ولعل ذلك راجع إما لتأثيرات الثورة المهدية أو لطبيعة بعض الطرق الصوفية الحركية مثل الطريقة التجانية أو أسباب أخرى تتعلق بعلاقة السلاطين في سلطنة الفور والمسبعات بالمؤسسة الدينية القائمة والارتباط المبكر بالاستنارات الدينية والعلوم الشرعية، وما أفاض من الأزهر الشريف ورواق دارفور وكردفان التي زحمت آفاق تلك المناطق بمجال طقوسي يختلف عن بقية أرجاء السودان التي عرفت الأضرحة والقباب ..
ولعل ارتباط الجزء الشمالي الشرقي من ولاية شمال كردفان بالنيل الأبيض وأواسط السودان وشماله، هو الذي نقل إليها ثقافة القباب وبنائها وإقامة الأضرحة وجعلها مزارات تصبو إليها الخلوق .
لكن السيد إسماعيل الولي الذي ولد في الهزيع الأخير من القرن الثامن عشر 1792 ثم حياته التي خرط فيها 71 عاماً، عندما افترع طريقاً صوفياً جذب إليه الأتباع والمُريدين، مستمزجاً بالمزاج الكردفاني الخاص حياة الأهالي، بعلمه وبساطته وفقهه وتعاطيه الشفيف مع الحياة، أسكن هذا الحب الإلهي في القلوب وعاش به، وكانت له أيدٍ بيضاء صادفت قلوباً بِيض، ترك عشرات بل مئات الكتب والمخطوطات ودواوين الشعر في الأدب الصوفي الرفيع، وأدعية ومأثورات هي تراث الطريقة الإسماعيلية القائمة الآن، وكانت وفاته حدثاً عظيماً، وبانت كراماته، فصارت له قبة ابتناها الناس في مدينة الأبيض في مطالع القرن العشرين، فاشتهرت بها المدينة واشتهر بها، ولعل حي القبة أبرز أحياء الأبيض، سُمِّي على تلك الهالة الفارعة من النور، ضياء يغمر ما تبقى من فجاج الظلام ..وحُق لأهل الأبيض في زمانه ومن بعد أوانه، أن يطلقوا عليه لقب قنديل كردفان..
في الخريف الماضي انهارت قبة السيد إسماعيل الولي، وتعهدت حكومة الولاية بإعادة بنائها من جديد وأظنها بدأت في ذلك وهو وعد غير مكذوب..
(ت)
تعانق السماء في الأبيض قباب أُخريات، منها قبة الشيخ ( أحمد البدوي أبو صفية) قُرب فولة ود أب صفية جنوب مقابر ( دليل ) وسبق الشيخ ود أب صفية أو تزامن وعاصر الشيخ إسماعيل الوالي، ويُقال إن إسماعيل الوالي تتلمذ على يدي والد الشيخ البدوي ود أب صفية، وإلى هذا الشيخ يُنسب اسم مدينة الأبيض كما تقول أكثر الروايات رسوخاً، وعاش الشيخ ود أب صفية ومات، وكان عالماً وفقيهاً ومصلحاً دينياً واجتماعياً. ومن شهرته العبارة التي سارت بها الرُّكبان وصارت مثلاً للاستهجان بقلة العلم والمعرفة ( قاعد في الأبيض وما بتعرف ود أب صفية ) .
وتوجد بين حي الرديف غرب ووسط قُرب مدارس الكمبوني قبة الشيخ يوسف أب شرا العركي الذي (تبين) لأهالي الأبيض في هذا المكان وصار مزاراً وقبة في الأربعينيات من القرن الماضي..
وهناك قبة الشيخ ( أحمد كنيش ) وهو من شيوخ الطريقة التجانية، عاش ما بعد فترة الحكم التركي والمهدية، وتوجد هذه القبة قريباً من قبة ود أب صفية حتى أن البعض يخلط بين المزارين والضريحين والقبتين.
كما تحضتن مدينة الأبيض قبة الشيخ دليل المحسي وهو مزار يرتاده الناس قُرب مركز تدريب البوليس، وعاش الشيخ دليل الذي تسمى مقابر المنطقة باسمه في العهد ما بعد المهدية.
وغرب السوق الكبير في الأبيض وغرب فولة الحلب والعمدة زين، يوجد ضريح ومزار وقبة للفقيه العالم عبد الباقي وهو من كبار شيوخ التجانية ولديه مسجد يحتوي على قبره، مات في السنوات السبعين من القرن الماضي .
أما في الأحياء الغربية وحسب ما يعتقده المتصوفة وأصحاب الرقائق، فقد (تبين)مزار للشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية وأقاموا له ضريحاً هناك، وهو يُزار دائماً في مكانه غرب الأحياء الغربية القديمة لمدينة الأبيض..
ولا نغفل قبة أو مزار القاضي ( عربي المكاوي ) وهو من القضاة في عهد التركية السابقة في الأبيض، وكان قاضي مديرية. وعندما جاءت المهدية عارضها بشدة واختلف مع الإمام المهدي في دعوته. ومزاره أو قبته شرق حي القبة غرب نادي الهلال .
(ث)
هذا في شأن قباب وأضرحة مدينة الأبيض، ولكن توجد في ولاية شمال كردفان قباب وأضرحة ومزارات أخرى تشع بشعاع الفقه والعلم الإيمان، في مناطق تقع كلها في الجزء الشرقي أو الشمالي الشرقي للولاية ..
في منطقة الرهد أب دكنة هناك قبة الشيخ ود الهندي وهو من آل الهندي الكبير وسليل دوحتهم، خرج من الخرطوم في عهد الحكم التركي المصري، مهاجراً الى الأبيض ليبايع الإمام المهدي، وعندما وصل منطقة الرهد كان المهدي وجيشه قد أخذ طريقاً آخر الى الخرطوم لحصارها وفتحها، ولم يستطع ود الهندي اللحاق بالمهدي فمرض بمنطقة الرهد وتوفي هناك وصار قبره ضريحاً وقبة .
وفي ذات المنطقة شرقي الرهد توجد قبة (الشيخ محمد صالح راجل أم عز ) في منطقة أم عز شمال شرق الرهد، وفي منطقة الزريبة قبة الشيخ محمد وقيع الله البرعي والد الشيخ عبد الرحيم البرعي شمال أم روابة، ثم قبة الشيخ النور في أم روابة، وقبة الشيخ أحمد الشايقي في أم عدارة، وقبة الشيخ محمد ود العجوز الكبير في (المنارة) شمال الرهد، وفي الرهد ذاتها هناك قبة ( الشيخ العجمي نور الخلوات) وهو عاش في بداية العهد التركي، ومن الذين نشروا الإسلام في مناطق جبال النوبة ومات في منطقة ( الليري ) لكنه كان قد أوصى بدفنه في الرهد، فجيء بجثمانه ودُفن في أب دكنة وصار قبة .
ومن القباب الشهيرة قبة الشيخ المجذوب في ( البنية ) شرقي زريبة الشيخ البرعي، وقبة الشيخ الكباشي في منطق الحجاب قُرب جبرة الشيخ والتي زار السيد الرئيس مسيدها ومكانها في زيارته للولاية أول من أمس .
(ج)
قبة السيد أحمد هرون التي عناها الرئيس في أبعادها المجازية، هي كالقبة التي ضربت على ابن الحشرج كما يقول البيت الشعري العربي الشهير لزياد بن المعجم :
إن المروءة والسماحة والندى
في قبة ضُربت على بن الحشرجِ
ستكون قبته مع القباب، هي عنوناً للبناء والعزيمة لكل أهل شمال كردفان.
ففكرة النفير ومشروعها ليست لأحمد هرون وحده، فهي لكل أهل الولاية، بكدهم واجتهادهم، فعزائم الرجال وصبر الناس وعونهم هو الذي يصنع المعجزات. وما جرى في هذه الولاية، يستحق أن يُستلهم، ولعل السيد الرئيس رأى في كل ذلك قبساً من تلك الروح التي لم تزل تسري في الأحفاد من الأجداد ، وفنارات لم تزل تسطع وهبها الشيوخ وعظماء كردفان، وهي تهدي للعابرين والسالكين ..في نيرات من إسماعيل الولي وأحمد كنيش وود أب صفية ويوسف أب شراء وود الهندي والبرعي والشايقي ودليل المحسي وشيخ النور وود العجوز والشيخ الكباشي والقاضي المكاوي وشيخ محمد راجل أم عز والشيخ العجمي وشيخ المجذوب وغيرهم من رجال كردفان ومن ركائز الأرض ..
لعل قبة أحمد هرون ستكون كالبيرق العزيز بين هذه القباب جميعاً ..فهو أيضاً من ( تِركة صُلاح ) ، ولعل قبة كردفان الجديدة تصلح معها قصيدة أبو الشمقمق :
بَرَزْتُ منَ المنازِلِ والقِبَابِ
فلم يَعْسُرْ على أَحَدٍ حِجَابِي
فمنزليَ الفضاءُ وسقفُ بيتي
سماءُ اللهِ أوْ قطعُ السحابِ
فأنتَ إذا أردتَ دخلتَ بيتي
عليَّ مُسَلِّماً من غَيْرِ بابِ
لأني لم أجدْ مصراعَ بابٍ
يكونُ مِنَ السَّحَابِ إلى التُّرَابِ
ولا أنشقَّ الثرى عن عودِ تختٍ
أؤمل أنْ أشدَّ بهِ ثيابي
ولا خِفْتُ الإبَاقَ على عَبِيدي
ولا خِفْتُ الهلاكَ على دَوَابي
ولاحاسبتُ يوماً قهرماناً
مُحاسبةً فأغْلَظُ في حِسَابِي
وفي ذا راحةٌ وَفَراغُ بالٍ
فدابُ الدهرِ ذا أبداً ودابي

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة