الهَمَج.. هؤلاء أول من حمل هذا الاسم فتعرّف عليهم!
ترد كلمة الهمج، كثيراً، كمفردة تدل على تأخر وانحطاط وضعة عند حاملها، أو عند الموسوم بها. فيقال الهمجي عن الشخص الشرير أو القاتل أو من يسفك الدماء. وتقال عن الذي يأتي بسلوك أقل تحضراً من سواه. ويقال الهَمَج عن القوم الرعاع الذين لا يراعون حرمة ولا ديناً ولا أخلاقاً. وهي تستعمل للشتم والتقليل من شأن الآخر ووصفه بالوحشية والتخلّف، بصفة عامة.
وتستخدم كلمة “الهمجي” للدلالة على الوحشية، سواء في قتل أو في قصف أو في تدمير أو في أي تخريب عام يخص الناس وأملاك البشر من زرع وبناء.
ومن أواخر استخدامات كلمة الهمجي، تلك التي وردت في بيان للائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية، منذ يومين، رداً على القصف الذي تتعرض له غوطة دمشق الشرقية: “لم تكن حرب الإبادة الجماعية ولا الاعتداء الهمجي ليقعا على أهالي الغوطة الشرقية، لولا الصمت الدولي المطبق”.
فمن هم الهَمَج حتى باتت الوحشية والقتل والتدمير، من أوصافهم أو أسمائهم؟ فبات كل مجرم همجياً وكل جيش يقتل المدنيين، همجياً. وما هو الهَمَج، في الأساس، ليكون كلمة تدل على كل تدمير وقتل عنيف ووحشي؟
الهمجُ هو البعوض أو الذباب!
على الرغم من أن وصف أو تسمية قتلة الأبرياء ومدمري المدن، بالهَمَج، ومنها التدمير الهمجي والقصف الهمجي، إلا أن الهَمَج، في اللغة العربية، لم يكن أكثر من اسم للبعوض أو للذباب!
فالهَمجُ، صغارُ البعوضِ. ويكمل ابن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276هـ، في “أدب الكاتب” أنه لهذا السبب “قيل للجهلة والصغار: هَمَج”. وفي مكان آخر يقول: “الهَمَج البعوضُ”.
إلا أن الهَمج الذي أصبح في عصرنا، إشارة إلى الوحشي الدموي من أي قوم قتلة، فقد كان في العربية ذباباً صغيراً “يسقط على وجوه الإبل والغنم”. وواحدة الهمج، تصبح، هَمجة. يقول ابن سيده، المتوفى سنة 458هـ، في “المحكم”: “الهمج ذباب صغير، وقيل هو ضربٌ من البعوض، وقيل الهمج صغار الدواب”. ويضيف استعمالاً مجازياً لها نستعمله الآن: “والهمجُ: الرعاع من الناس”.
ويضيف معنى غريباً للهمج، تمنح الكلمة دلالة أصلية بالغة الترميز، فيقول: “والهَمَجُ الجوعُ”. لكن كيف يكون الهمج ذباباً وبعوضاً، وفي الوقت نفسه، اسماً للجوع؟ الأمر يتوضّح عند ابن فارس المتوفى سنة 395هـ، في “مقاييس اللغة” إذ يقول: “الهمجُ، الهاء والميم والجيم، أصلٌ يدلّ على اختلاط واضطراب”. حيث حتى لو انقلبت حروف الكلمة وصارت هجمَ أو جهَمَ، فإن الاضطراب والاختلاط يظلان مصاحبين لمعناها. ويوضح ابن فارس لماذا كان الهمج اسماً للجوع: “الهمج الجوعُ لما يعتري صاحبه من اختلاط واضطراب”.
مؤكداً، هو الآخر، أن الهَمَج: البعوض، مشيراً إلى أننا عندما نطلقها على الرعاع، فذلك من قبيل التشبيه، فقط. ذلك أن الأصل بالهمج، البعوض أو الذباب، ومنه الجوع. ولهذا يقول ابن دريد المتوفى سنة 321هـ، إن “الهَمج من الناس (هم) الذين لا نظام لهم”. فلذلك يقال عن “البق” أو الناموسة، أو البرغش، إنه همج. حسب ابن دريد في “الجمهرة”.
ويقطع الأزهري المتوفى سنة 370هـ، في “تهذيب اللغة” أن الهمجَ، في كلام العرب، أصله البعوض، والواحدة هَمجة. ومثله يفعل محمد بن القاسم الأنباري، المتوفى سنة 328هـ، في “الزاهر في معاني كلمات الناس” مؤكداً أن الهمجَ أصله في كلام العرب، البعوض. وإذا تتبعنا لفظ الهمج، مثلاً، في كتاب “الحيوان” للجاحظ، والمتوفى سنة 250هـ، سنجدها كما السابق: “الهمجُ ليس من الطير، لكنه يطير”. أو “الهمج وصغار الحشرات”. وهنا “من أصناف الخلق من الحشرات والهمج”.
الهمَجُ إذا جاعَ عاشَ وإذا شبع ماتَ!
إلا أن الصاحب بن عباد، والمتوفى سنة 385هـ، في “المحيط في اللغة” يضيف أن الهمجَ هو “كل دود يخرج من ذباب أو بعوض”. ويعطي معنى لها يتفق مع الأصل الألسني لحروفها والتي أشار إليها ابن فارس بأنها تعني الاضطراب والاختلاط، فيقول: “الهَمجة (هي) الفاحشة الكلام من النساء”. مؤكداً أن “الهمجي مثله (ها)”.
وجاء في “لسان العرب” لابن منظور المتوفى سنة 711هـ، أن الهمج هو الجوع، وبه سمّي البعوض لأنه “إذا جاعَ عاشَ، وإذا شبع مات!”.
دائماً يدهشنا “لسان العرب” بنقلات نوعية في الاشتقاق واستنباط المعاني، حيث أوضح أن البعوض يتحرّك باضطراب وسرعة وعبثية، في حال الجوع، أما عندما يشبع، فإنه يموت، من شدة ما تناوله من دماء، فلهذا كان الهَمج هو الجوع، ذلك أن اضطرابه وعنفه ووحشيته كما يريد ابن فارس في ردّه أصل الكلمة، ناتج من حاجته لامتصاص الدماء التي ما أن يشبع منها، حتى يخرّ صريعاً. ويقول: “الهمج، ذباب صغير كالبعوض”. منتيهاً إلى أن “الهمج في كلام العرب أصله البعوض”، ثم “يقال لرعاع الناس”.
وأوّل المعاجم “العين” للفراهيدي المتوفى سنة 170هـ، يقول إن الهمج “كل دود ينفقئ عن ذباب أو بعوض”. وهو أول معجم يقول إن الهمج “الجوع، أيضاً”.
ومن أول القواميس إلى آخرها وأضخمها، وهو “تاج العروس” لمرتضى الزبيدي المتوفى سنة 1205هـ، وهو أقرب المعاجم الضخمة إلينا زمنياً، فيقول: “الهمج ذبابٌ صغير كالبعوض” مكررا أن الهمج هو الجوع، ومشيراً في الوقت نفسه، إلى أن استخدام كلمة الهمج على الرعاع من الناس هو “من المجاز”. أي أن الأصل في الكلمة كما أكد الجميع، هو البعوض، الذي كان أول مسمى لاسم الهمج.
هؤلاء هم الهمج، في أصل اللغة العربية. وهكذا يكون الفعل همجياً والعمل همجياً. فهل من الجائز، لغوياً، بعدما قالت العربية ما قالته عن الهمج، وصف عمليات القصف والتدمير وسفك الدماء، بالهمجية، وحسب؟!
العربية