الغيمة الصفراء .. هواء الخرطوم الملوث ينشر الأمراض التنفسية
أضحت الخمسينية السودانية بتول حسن تفضّل البقاء على كرسيها المتحرك ليل نهار، خوفاً من غبار الردة الذي يغطي فراشها، والذي أصابها بتليف رئوي قبل نحو عامين، إذ تقطن على بعد 80 متراً من مطاحن الغلال، بحي كافوري شمالي الخرطوم.
وبينما تحاول بتول جاهدة استنشاق آخر ما علق بعبوة بخاخ الأزمة وتنفض حقيبتها بحثاً عن أخرى، تشتكي من ارتفاع أسعار الأدوية والفحوصات الضرورية لوظائف الرئة التي يطلبها طبيبها المعالج، قائلة لـ”العربي الجديد”: “عندما سكنت في المنطقة قبل أربعة أعوام لم أكن أشتكي من أي مرض، اليوم أنفق على علاجي أكثر من 3500 جنيه شهرياً (تعادل 175 دولاراً أميركياً)”.
معاناة بتول يشاركها فيها 80% من الحالات المترددة على طوارئ مستشفى البراحة الأقرب لأحياء “كافوري، شمبات، حلفاية الملوك، الصبابي”، المتأثرة بمطاحن الدقيق والغلال وفقا لما يؤكده المتخصص في طب الطوارئ في المستشفى الطبيب أشرف نبيل الذي كشف عن ارتفاع عدد حالات الحساسية في الجهاز التنفسي المترددة على طوارئ المشفى بنسبة تصل إلى 80% من إجمالي الحالات ضمن نطاق يتراوح بين كيلومترين و39 كيلومتراً من المناطق السكنية القريبة من المنطقة الصناعية بمحلية بحري، إذ تطلق المصانع والمطاحن ذرات تعلق في الهواء وتخلق مناخا غير صحي يؤثر على الجهاز التنفسي لافتاً إلى أن أغلب الحالات تأتي في شكل ضيق في الشعب الهوائية، موضحاً لـ”العربي الجديد” أن معظم الحالات تعاني من حساسية صدرية أو نوبة ربو منها ما يمكن علاجه في الطوارئ وأخرى تتطلب مبيتا في المستشفى”، قائلا “أخشى الأثر البعيد لإصابات الأطفال المتكررة بنوبات السعال والربو وضيق الشعب لضعف مناعتهم، على السلطات نقل تلك المصانع والمطاحن إلى مناطق غير مأهولة بالسكان”.
معاناة الأطفال
أغلقت روضة أطفال تتبع لسلسلة عالمية أبوابها بعد أن قام أولياء الأمور بسحب أطفالهم منها، لإصابتهم المتكررة بالسعال وضيق التنفس بسبب غبار الردة ومخلفات إنتاج الدقيق قبل عامين بحسب المعلم المتقاعد حسين الخليفة والذي يعاني هو الآخر من حساسية جلدية تظهر على شكل طفح جلدي تصاحبها حكة، وتتوافق أعراض مرضه مع حساسية الخمسينية سيدة سلامة التي تظهر على وجهها ورقبتها على شكل دوائر كبيرة حمراء، بحسب ما قالت موضحة أن منزلها يبعد نحو 500 متر عن مصانع الغلال، غير أن مصابها الأكبر كان في ابنها الذي فقد حاسة الشم بسبب غبار الردة الذي أدى لإصابته بحساسية الجيوب الأنفية مما استدعى إجراء عملية جراحية له، بينما يعاني أطفال أم مهند الثلاثة من نوبات ربو تتكرر لستة مرات شهريا مما يتسبب في تغيبهم عن المدرسة.
أما تحية البشير ربة المنزل رقم (366) والأم لثلاثة أبناء فتقول إنها شيدت منزلها قبل (25) عاماً، ولم يكن هناك أثر لأي من المصانع والمطاحن، إلا أن غبار الدقيق والردة الصادر من مطحنتي الدقيق، إذ توجد منازل سكان حي كافوري مربع (1) بينهما، أديا إلى معاناتها وأطفالها من حساسية في الجهاز التنفسي، ما دفعها بالتفكير لبيع المنزل والانتقال إلى حي آخر يلفه هواء نقي، إلا أنها فشلت أيضا في ذلك، فلا أحد يرغب في شراء منزل بتلك الرقعة ولا يرغب في استئجار منازلها أيضاً.
أمراض مشتركة
كشفت ثلاث جولات أجرتها معدة التحقيق في منطقة كافوري شمالي الخرطوم التقت خلالها 12 ساكنا، عن أعراض مشابهة لأمراض الجهاز التنفسي والحساسيات الجلدية وحساسية العيون والتهاب الجيوب الأنفية والصداع المزمن منتشرة بين السكان، وهو ما تؤكده مديرة إدارة تقييم الأثر البيئي في المجلس الأعلى للبيئة والتنمية الحضرية في ولاية الخرطوم الدكتورة ندى عبد العزيز، لتحقيقات “العربي الجديد” مرجعة السبب إلى إنشاء المصانع والمطاحن بالقرب من المساكن، قائلة “المجلس يراقب الخطة التشغيلية، ولا نمتلك أجهزة لقياس الذرات العالقة في الهواء”، وهو ما نفته 3 مصادر متطابقة تعمل في المجلس، قائلة إن الأجهزة متوفرة، ولكنها تحتاج إلى معايرة بمبالغ باهظة، ما جعل المجلس لا يقوم بتفعيلها.
وينص قانون حماية البيئة لعام 2008 في تعديل عام 2015 على إنشاء نيابة ومحكمة خاصة بقضايا البيئة وحماية المستهلك، ويفرض القانون عقوبات عبارة عن غرامات مالية لا تقل عن عشرة آلاف جنيه (1428 دولارا) وإزالة الضرر، ونص القانون على تحمل المنشأة مسببة الضرر تكلفة إزالته بحسب الفصل السادس، إلا أن وزارة الصحة لم تجر مسحاً على المنطقة لتحديد الأضرار الصحية الناتجة عن التلوث بغبار الردة والعلف، بحسب ما قاله لـ”العربي الجديد” الدكتور حسام عزالدين نائب مدير مشفى الشعب لأمراض الصدر الحكومي، والذي يعد الأكبر في مجال الأمراض التنفسية، فيما تحفظت وزارة الصناعة والاستثمار بولاية الخرطوم عن التعليق على دورها في التفتيش الدوري على المطاحن وماطلت الوزارة معدة التحقيق لأكثر من ثلاثة أسابيع للتعليق ثم اعتذرت بحجة أن لا معلومات متوفرة لديها عن الأمر في الوقت الذي فشلت إدارة التخطيط بوحدة الاستثمار الصناعي في إيجاد القرار التخطيطي المتعلق بوجود مطاحن للغلال بالقرب من الأحياء السكنية.
داخل المطاحن
كشفت جولة على منشآت إنتاج الدقيق والغلال، عن خلو ساحات المصنع والمطاحن الممتدة على مساحة أكثر من 3 آلاف متر مربع من غبار الردة المتطاير في المنازل التي تجاورها بفعل الرياح، بينما تؤكد لوحات إرشادية وتحذيرية للعمال بكل الطوابق العشرة وللمطاحن الثلاث، ضرورة التزامها باستخدام الكمامات والزي الواقي وربطه بتقييم أداء العمال وترقياتهم.
وبحسب أحمد عبد الله، مدير إدارة الصحة والسلامة المهنية والبيئية بمجموعة شركات مشغلة للمطاحن: “فإنهم يحاولون منع ظهور المخاطر أو التقليل منها في الحد الذي يسمح به القانون” مقراً بوجود تحديات تواجه وجود المصنع في منطقة سكنية ومنها تقليل التلوث الضوضائي بتركيب جهاز يخفض الصوت إلى أقل من النسبة المطلوبة في قانون البيئة، قائلا “اجتهدنا في البحث عن خيارات تقلل أثر وجود مطاحن بهذه الضخامة بالقرب من حي سكني”.
ويذهب إلى أنهم سبق أن قاموا بقياس تلوث الهواء بالمعمل المركزي للهيئة العامة للكهرباء وطابقت نتيجته النسبة التي حددتها منظمة الصحة العالمية، وهي (2.5) PM (ميكرون). إلا أن احمد تهرب من الإجابة عن الغبار المتسرب إلى المنازل ومعاناة الأهالي منه.
من يتحمل المسؤولية؟
يحمّل الخبير البيئي الدكتور بشرى حامد وزارة التخطيط العمراني في ولاية الخرطوم المسؤولية كاملة في التداخل بين المناطق السكنية والصناعية في الولاية، والذي يجب فصله بحرم آمن يقدر بخمسة كيلومترات مربعة وفقاً للمعايير الدولية وأن تكون المصانع بالاتجاهين (الشرقي والغربي) من الأحياء السكنية عكس اتجاه الرياح الموسمية، قائلا لـ”العربي الجديد”: يتحمل متخذ القرار في السودان ذنب هؤلاء السكان”، ويمضي قائلا إنه “لا ينصح بالسكن في تلك المنطقة ويحذر قاطنيها من مشاكل صحية تظهر لهم لاحقاً وأخطرها تليف الرئة نتيجة التحجر في الجهاز التنفسي، وهي الأمراض الشائعة من آثار غبار الردة والعلف، وهو ما سمّاه “القاتل الصامت” إذ إن انتشار عوالق الردة والدقيق في الهواء تؤدي إلى مشاكل في الشعيرات الدقيقة للرئة لدى تنفسها بعد انتشارها في الهواء. مطالباً الدولة بتثبيت محطات ثابتة لقياس الهواء في المناطق الصناعية ومراجعة التراخيص التي منحت لهذه المصانع، والعمل على تفعيل التفتيش الدوري ومراجعة أنظمة التخلص من العوالق الدقيقة. منبهاً إلى اتجاه عالمي جديد عبر المؤسسات الدولية المعنية بالبيئة يدعو إلى مقاطعة منتجات أي مصنع يعمل بنظام غير صديق للبيئة.
ويشير الخبير البيئي حامد إلى ضرورة إلزام الجهات المعنية في وزارتي الصحة والبيئة، مصدر التلوث بالتشجير حول المنطقة وعمل مصدات للرياح، ويضيف: “ما دامت المصانع والمطاحن تحيط بتلك المنطقة فلا بد من حماية السكان، ولا بد من بحث إمكانية معالجة لغبار الردة الصادر من المصانع والمطاحن رغم تكلفتها الباهظة”، وهو ما يتفق معه رئيس المجلس الأعلى للبيئة حسن إسماعيل، والذي قال لـ”العربي الجديد”، على المطاحن والمصانع توفيق أوضاعها البيئية، وإذا لم تلتزم سنقوم بإعمال أحكام القانون فيهم، الأمر الذي تحلم به نسرين محمد الطيب، إذ دفعتها الالتهابات الصدرية التي أصابت بناتها إلى إجبارهن على ارتداء الكمامات إن أردن اللعب بفناء الدار، مؤكدة، بينما تقسم بالله، أنها شاهدت في إحدى الأمسيات غيمة صفراء تخرج من إحدى فوهات المطاحن، وبسبب الرياح غطت الردة ملابس بناتها، قائلة: “نتردد على قسم الطوارئ في المستشفى، وخاصة ابنتي الكبيرة لينا ذات الأعوام الخمسة والتي تذهب في بعض الأوقات إلى المشفى أكثر من مرة أسبوعياً، بعد أن أصبحت تعاني من التهاب في الحلق بصورة دائمة وتعجز عن التنفس في أحيان كثيرة”. وتشير نسرين بشفقة إلى والدها الذي يعاني من سعال دائم يشتد ليلاً، وقد فشلت كل العقاقير في مداواته قائلة: “كلنا نعاني ونتمنى تطبيق القواعد البيئية والصحية وحمايتنا من تلوث الهواء”.
العربي الجديد